كلما قرأت ، في مثل هذا الوقت من كل عام ، تلك الأبيات الشاعرية المنعشة للشاعر الخالد أبو تمام والتي يقول فيها:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجى أوائل ورد كّـن بالأمس نوّما
ورقّ نسيم الريـح حتى حسـبته يجـيء بأنفاس الأحبة نعما
يفتقـها برد النـدى فكأنـه يبث حديثـا كان من قبل مكتـما
خيّل إليّ أن أبو تمام سنحت له الفرصة من قبل لزيارة كوريا في الربيع ، فشهر الربيع في كوريا مدهش منعش يبلغ منتهى كماله في شهريّ إبريل ومايو ويجعل الحياة لطيفة جميلة بشكل يجعلك دائما تتذكر الله وتتأمل كيف يكون فردوس الخلود إذا كان بالأرض مثل هذه الفراديس.

ومن المزايا التي تتفرد بها كوريا وجود أربعة فصول مناخية واضحة ومميزة ومحسوسة ، وموسم الربيع هو من المواسم الكورية البديعة والمنعشة للنفس ، فأنت تحسه بدنيا وروحيا وذهنا ،وتعيشه مع كل نسمة تتنفسها.وكوريا خلال موسوم الربيع ترتدي حلة ربيعية خضراء بديعة و تتسربل بثياب زاهية من الزهور البرية والورود ذات الألوان المختلفة والمتنوعة والتي تملأ أنحاء البلاد من وديان وجبال وحقول ، والكوريون يحتفلون في اليوم الخامس من كل شهر إبريل بعيد الشجرة حيث يحرص كثيرون من الكوريين على غرس شجرة في ذلك اليوم، وإذا قدر لك أن تسافر في رحلة برية خلال فصل الربيع حتى داخل مدينة سيؤول نفسها أو ضواحيها الحضرية والريفية القريبة فسوف تندهش من ذلك البساط السرمدي من الخضرة الممتدة على مدار النظر بشكل أفقي ورأسي بديع.

لذلك استغربت جدا عندما قرأت قبل فترة وجيزة تقريرا صحفيا صادر عن وكالة متخصصة لمنع حوادث الانتحار في كوريا يشير إلى أن الموت انتحارا صار رابع أكبر أسباب الموت عند الكوريين ، وأن 70% من حوادث الانتحار في كوريا هي بسبب الاكتئاب النفسي الذي يصيب الكثيرين من الكوريين ، وأن عدد من يمارسون الانتحار في كوريا كل عام يتراوح بين 20 و25 ألف شخص ، وأن النسبة الأكبر من هؤلاء يقومون بالانتحار خلال شهر إبريل بالتحديد والذي نعيشه في هذه اللحظات ، والأمر ليس مجرد مصادفة وإنما تثبته إحصائيات مسجلة وموثقة خلال عدد من السنوات المتتالية.
ولما كان شهر إبريل هو ذروة وقمة موسم الربيع في كوريا ، ولما كان من المفترض أن يكون موسم الربيع ، بكل المقاييس ، وفي كل بلدان العالم ، وليس كوريا وحدها ، موسم بهجة وفرحة وانتعاش نفسي ، فقد سعى بعض الخبراء إلى محاولة تحليل هذه الظاهرة ووجدوا لها تفسيرا محتملا ، هو أن الظاهرة هي أساسا متعلقة بالشتاء وليس الربيع ، وبظاهرة الرياح المحملة بالرمال الصفراء القادمة من صحراء الصين الشمالية في نهاية فصل الشتاء ، ففصل الشتاء القاسي والطويل هو الذي يسبب الاكتئاب للشخص بشكل تراكمي حتى إذا جاء إبريل وفصل الربيع وجدا أن الأمر قد وصل مداه ، وأن الشخص قد بلغ مبلغا من الاكتئاب ، بشكل يجعله يؤثر التخلص من حياته لوضع حد لمعاناته وكآبته .

رغم إن ما تقدم هو محاولة للتفسير ولكني من خلال معايشتي لفصل الربيع كل عام لا أستطيع أن أقتنع بالأمر، ولولا أن الأمر مدعوم بوثائق وإحصائيات ودراسات جرت على أسس وتجارب واقعية ، لما وجدت ، كشخص قادم من دولة من دول الساحل والصحراء العربية أي سبيل للاقتناع بأي من التفسيرين ، فمواسم الربيع ، على قلتها في أكثر بلداننا العربية ، هي مواسم للفرح والتفاؤل ، وفي بعض البلدان العربية لا تجد أثرا في الواقع لموسم ربيع ولكنك تجد الكثير من الأغاني والقصائد والأشعار الملتهبة الساخنة التي تتغزل في الربيع والتي يتغنى بها مطربون يحملون مناديل مبتلة لمسح العرق السائل من وجوههم وهم يتمايلون طربا أمام جمهور يتصبب عرقا ويتصايحون جمهورا ومطربا يا ربيع يا ربيع الجو بديع والدنيا ربيع.