تحدثنا في حلقة الأسبوع الماضي عن الاحتفالات التي تعم كوريا بعام الكلب الذي هلّ مع مشرق عام قمري جديد. ورغم أن الكلب هو مجرد واحد من 12 حيوانا مختلفا يتم الاحتفال بكل واحد منه مرة واحدة في كل 12 عاما على نحو ما أوضحنا في الحلقة السابقة، إلا أن الكثيرين من الأجانب يبدون اهتماما ببرج وعام الكلب بالذات بسبب السمعة التي ارتبطت بشعوب هذا الجزء من العالم ومنها كوريا بظاهرة أكل لحم الكلاب.

ورغم أن الظاهرة موجودة بشكل أو بآخر وسط قلة قليلة من الكوريين وفي مناطق وأماكن بعينها، إلا أنها آخذة في التلاشي والاختفاء بشكل عام وخاصة في المناطق الحضرية ووسط الشباب، حتى إن الأجنبي الذي يقيم في كوريا قد يندهش عندما لا يلاحظ أي وجود للظاهرة، على نحو ما كان يسمع به وهو خارج كوريا. ويمكن القول إن الكلاب في كوريا عاشت وعاصرت تجربتين متباينتين تماما ، أولهما فترة ضياع كانت فيها مجرد كلاب ضالة رقيعة ومصدر هزيل للحوم بائسة ، والثانية هي التي تعيش فيها الآن مدللة منعمة مرفهة على النحو الذي كنت قد كتبت حوله مقالا سابقا في هذا البرنامج بعنوان " كلاب خمسة نجوم". قلت في ذلك المقال منذ أن صارت كوريا تسير بخطوات واسعة في طريق التطور صارت تعيش ظاهرة جديدة ومتعاظمة وآخذة في الانتشار بشكل جنوني ، وهي ظاهرة التدليل والاهتمام والعشق الذي يفوق الحد للكلاب المدللة الأليفة . السواد الأعظم من الأسر الكورية اليوم يقتنون كلابا مدللة ، ويندر أن تجد أسرة كورية دون كلب ، بل أن بعض الأسر تطلق على كلابها أسمائها العائلية ، وتخصص للكلب خزانة أو دولاب ملابس فيه العديد من اللبسات الشتوية والصيفية الشديدة الأناقة والتي تم نسجها وحياكتها في محلات متخصصة ، وهناك الآن عطور فرنسية مخصصة فقط للكلاب ومياه معدنية معبأة في زجاجات ومضاف إليها مواد صحية وطبية وغذائية وفيتامينات تحتاج لها الكلاب و كل أسرة كورية تخصص الآن جزء من ميزانيتها الشهرية للصرف والإنفاق على الكلاب ، وقد تطورت في كوريا خلال السنوات الأخيرة ،وبسرعة فائقة، ما يمكن تسميته بصناعة تربية الكلاب المدللة ، وتقدر بعض الجهات المتخصصة حجم هذا السوق في حدود مليار إلى مليارين من الدولارات سنويا ، وتؤكد تلك الجهات أن حجم هذا السوق سيتضاعف عدة مرات في غضون عامين من الآن. وفي إحصاء شبه رسمي قامت به مؤسسة متخصصة بلغ عدد الكلاب المدللة في كوريا الآن حوالي 4 مليون كلب ، أي أن أسرة واحدة من بين كل 3 أسر كورية تسعى الآن كلبا مدللا . مفهوم الكلب في حياة الأسرة الكورية تغير الآن بشكل جذري ، ففي الماضي كانت تربية الكلاب ، كما هو الحال عندنا في العالم العربي ، تتم فقط من أجل الصيد أو الحراسة المنزلية ، وكانت تعتمد في غذائها على بواقي وفضلات الطعام ، غير أن الأمر تغير بشكل جذري درامي كامل على نحو ما صورنا، وصار أقرب إلى الصرعة والهوس أو الجنون حيث انتشرت المحلات والمقاهي والأندية المخصصة للكلاب والتي قد تحتوي على اشياء ومقتنيات ثمينة بمئات وربما ألوف الدولارات من أفرشة وروائح وعطور وإكسسوارات وجواهر وأسورة وأدوات مكياج .
وجود صالونات تصفيف شعر وحلاقة وتقليم وتشذيب أظافر ومحلات رشاقة وغرف مزودة بأجهزة موسيقى وبرامج تلفزيونية خاصة ومخصصة للكلاب ما عادت في كوريا أمرا غريبا أو مثيرا للدهشة. لكن ما قد يثير الدهشة وربما الغضب لدى البعض هو تلك الأموال المهولة التي تصرف من أجل إجراء عمليات تجميل للكلاب المدللة، ومنها عمليات توسيع عيون، تماما كما يفعل الكثير من الكوريين أنفسهم، أو تقويم أنف، او شد وجه أو إزالة التجاعيد، وهناك تقارير رسمية مؤكدة وموثقة وبالأسماء لكل ذلك، وأسعار تلك العمليات مكلفة قد تصل في بعض الحالات لعشرات الألوف من الدولارات حتى أن البعض صار يرى الأمر ظاهرة سلبية تحتاج لدراسة ومعالجة حيث أن التدليل الذي تجده الكثير من الكلاب الكورية الآن يفوق ربما بعشرات المرات ما كان يجده الأطفال الكوريين أنفسهم حتى قبيل بضعة عقود خلت عندما كانت كوريا مجرد دولة نامية فقيرة وربما متخلفة مثلها مثل الكثير من الدول الآسيوية والأفريقية التي لا يحلم ولا يطمح أطفالها الآن لنيل جزء يسير من الرعاية والاهتمام والرفاهية التي تجدها الكلاب في كوريا . ربما يرى البعض إنه يحق لكوريا التي حققت هذه الطفرة والنقلة التنموية المدهشة أن تستمتع وتمتع حتى كلابها بما تحقق لها من رغد وبحبوحة، لكن آخرين يرون إن الأمر لا يجب أن يتم بذلك الشكل من المبالغة والبذخ والتصرفات الخرقاء المثيرة للاستهجان وإن جمال الكلب يكمن في طبيعته التي تتسم بالوفاء والإخلاص والقابلية للتكيّف والتدريب، أما فيما عدا ذلك فهو سيظل دوما، ومهما فعلت له، كلب ابن كلب، إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث.