الذهاب إلى القائمة الذهاب إلى النص
Go Top

الثقافية

الصيام بين البوذية والإسلام :

2018-05-29

سيول بانوراما

الصيام بين البوذية والإسلام :
كان الأمر محض صدفة وذلك في ال22 من شهر مايو، وكنا مجموعة من الصائمين العرب مدعوين إلى تناول طعام الإفطار في يوم من أيام شهر رمضان المعظم الذي ما زلنا نعيش في رحابه الكريم. كانت السيارة التي تقلنا تشق طريقها ببطء شديد بسبب الزحام والضجيج ، فقد تصادف إن ذلك اليوم كان يوم عيد واحتفال شعبي في كوريا، فهو يوم عيد ميلاد بوذا الذي هو أحد أعظم الأعياد التي يحتفل فيها سنويا أنصار الطائفة البوذية في كوريا بهذه المناسبة البوذية التي يجلّونها. كان الموكب طويلا جدا ويتكون من ألوف مؤلفة من البوذيين في أزيائهم الفضفاضة الملونة ورؤوسهم الصلعاء وهم يضربون على الطبول، وبعضهم يتحرك ويتراقص ويتمايل في رشاقة بشكل مقارب لما يحدث في حلقات الذكر والمديح في بعض البلدان العربية والإسلامية التي تتواجد فيها طرق صوفية متنوعة كما يحدث عادة في المناسبات التي يتم فيها الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. كان من بيننا ضيف زائر هو أستاذ جامعي في واحدة من كبرى الجامعات العربية. لاحظنا إنه يتابع الأمر باهتمام بالغ فهو أستاذ وخبير في الدراسات الدينية والفلسفية المقارنة وهو موضوع الأطروحة التي نال بها درجة الدكتوراه .
وخلال متابعتنا لذلك الموكب البوذي المهيب تحدث لنا ذلك البروفسور المتخصص حديث العارف حول بعض ما جاء في تلك الأطروحة. قال إنه مثل ما أن هناك العديد من التعاليم والقيم والمعتقدات والقواعد المشتركة بين الإسلام وبقية الديانات السماوية الأخرى، توجد تشابهات وتقاربات في الكثير من الممارسات والطقوس والشعائر بين الإسلام كدين والبوذية كفلسفة حياتية، وهو ما ركز عليه في أطروحة خاصة نال بموجبها درجة الأستاذية. تتضمن تلك الممارسات المتشابهة الركوع والسجود والخشوع والتهجد والدعاء وقيام الليل والنسك والزهد والتقشف والذكر والتراتيل والصيام .
قال إن الصيام البوذي كان موضوع البحث الذي أعده في هذه الشأن وجاء بعد الكثير من الزيارات الميدانية والحضور الشخصي المباشر والمتكرر للكثير من المناسبات والفعاليات البوذية التي تم تنظيمها في هذا الصدد، ولم يقدم أطروحته إلا بعد أن عرضها على عدد من كبار المتخصصين والمتبحرين في العلوم والتعاليم البوذية. الصيام بالنسبة للبوذيين هو موضوع ومفهوم وممارسة مختلفة بين العديد من المذاهب والطوائف والمدارس البوذية على اختلافها، لكن المفهوم العام لا يختلف كثيرا عن المفهوم الإسلامي إلا بشكل يسير. مثلا فإن الصوم في الطائفة البوذية الأكبر التي تعرف باسم الرهبانية هو ممارسة زهدية رهبانية تحرص على القيام ب13 ممارسة منها أربعة متعلقة بالطعام والصوم، والصوم عندهم هو تربية شخصية فردية ذاتية تهذيبية ووسيلة للتنوير والصحوة النفسية والاستيقاظ الٍذهني، ولا يعني الامتناع تماما عن الأكل، وإنما ترشيده وتسخيره كوسيلة للتربية والضبط النفسي والتحكم في غريزة اشتهاء الأكل والتعود على البساطة والزهد والنسك والابتعاد عن الجشع والطمع والبحث عن الشهوات والحاجات المادية الدنيوية . والممارسات الأربعة اللازمة والمتعلقة بذلك هي الاكتفاء بوجبة واحدة فقط طيلة اليوم بنهاره وليله، والأكل جلوسا، وأكل القليل جدا الذي يكفي للحياة، والأكل من عامة ما يأكله البسطاء الفقراء. الصوم عندهم ممارسة وسطية تنبذ التطرف وهي أكل ما يقيم الأود ويحفظ الحياة بدون إفراط أو تفريط .وعن الأشياء المسموح بأكلها أو منعها عند الصيام فإن الأغلبية الساحقة من البوذيين لا يأكلون عند الصيام لفترات طويلة، وفي أوقات محددة، لحوم كل الكائنات الحية من حيوانات وطيور وحشرات وكل أجزاءها ومكوناتها ومنتجاتها من بيض وألبان ومشتقاتها، ورغم أنهم نباتيون إلا أنهم يكتفون بحفنات قليلة من الأرز أو السمسم مثلا، و يمتنعون عند الصيام حتى عن أكل بعض النباتات التي يبدو في أكلها نوع من الترف كالبطاطا والفواكه، وكذلك كافة أنواع الكحول والتبغ والمكيفات. وكما في الإسلام فإن الصوم البوذي يقتضي البلوغ والرشد والصحة والقدرة على التحمل، ويتم أحيانا تحت تعليمات وإشراف أشخاص متنورين عارفين بالمطلوب من الصوم وكيفية ممارسته، فالصيام أنواع، فهناك صوم يقتضي أكل الخبز الجاف فقط لمدة ثلاثة أيام متتالية ويكون ذلك عبارة عن تمرين وتعويد للبطن والمعدة على الصيام، ثم ممارسة الصيام لمدة 18 يوما متتالية من خلال الامتناع عن أكل ما أشرنا له أعلاه والاكتفاء بشرب قليل من الماء عند الحاجة ، وقد يستمر الأمر بين شد وجذب وامتناع عن الأكل ثم العودة له بكميات ضئيلة ورمزية على مدى 72 يوما وقد يستمر الأمر عند بعض الملتزمين المتدينين لمدة أشهر وربما سنوات. خلاصة الأمر إن الصوم عند البوذية ليس واجبا أو ركنا مطلوبا لاعتناق البوذية، وإنما وسيلة للتطهر البدني والذهني وللتنوير السلوكي والتهذيب النفسي والتقويم الأخلاقي وقمع الشهوات والنزوات.
رغم زحام الطريق وتكدس الحركة إلا أننا قضينا وقتا طيبا ازداد فيه إيماننا بعظمة وتفرد عملية الصيام كممارسة مفيدة للروح والنفس والبدن، وتأكد لنا ان الصيام، اسلاميا كان أم بوذيا، ورغم الكثير من مظاهر الاختلاف والفروقات والشكليات، إلا أنه في جوهره ولبه عملية تربوية وجدانية سامية متشابهة، ولا يختلف كثيرا ويحمل نفس المقاصد والغايات، فهو عن البوذيين وسيلة للتنوير والتطهير والارتقاء النفسي والسلوكي، وهو عند المسلمين شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ.

موضوعات بارزة

Close

يستخدم موقعنا الكوكيز وغيرها من التقنيات لتحسين الخدمة. مواصلة استخدام الموقع تعني أنك موافق على استخدام تلك التقنيات، وعلى سياسة موقعنا. عرض التفاصيل;