الذهاب إلى القائمة الذهاب إلى النص
Go Top

الثقافية

فردوس أم جحيم:

2017-12-19

سيول بانوراما

فردوس أم جحيم:
كغيري من الكثيرين من الأجانب، شعرت بالكثير من الدهشة والاستغراب عندما قرأت مقالا يحتل صفحة كاملة في صحيفة كوريا هيرالد أحد أكبر الصحف الكورية الناطقة بالإنجليزية تحت عنوان "الهروب من جوسون" ، وجوسون هو الاسم التاريخي القديم لكوريا. جاء في المقال الذي كتب بناء على عدد من التقارير واستطلاعات الرأي، إن أعداد الشباب الذين قاموا فعلا أو قرروا أو شرعوا في الاجراءات الخاصة بالهجرة إلى خارج كوريا وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا أو أستراليا في تزايد مستمر وبمعدلات مخيفة. الأمر بالنسبة للكثير من الأجانب مسبب للحيرة، فما يصفه ذلك الشباب الكوري حسب ما جاء في التقرير بالجحيم، يراه الكثيرون من الأجانب فردوس وجنة. فمن الأشياء التي صار متفقا عليها الآن في مختلف أنحاء العالم إن كوريا الجنوبية دولة حققت طفرة ونقلة وتطورا تنمويا يستحق أن يوصف على أقل تقدير بالمذهل . فكوريا نجحت خلال بضعة عقود من الزمان من الصعود من القاع إلى القمة، ومن الدولة الفقيرة المتسولة المتلقية للعون إلى الدولة المترفة المانحة للعون والمقدمة للمساعدات، وذلك خلال رحلة قصيرة أطلق عليها العالم اسم المعجزة الاقتصادية على نهر الهان. والأجنبي الذي يعيش في كوريا ولو لوقت قصير لن يجد صعوبة في مشاهدة إن أغلب فئات الشعب الكوري تعيش في رغد وبحبوحة ونعيم، والشباب بالذات ، ذكورا وإناثا، تبدو علبهم مظاهر البطر والحياة الطيبة السهلة، ولا ترى في الشوارع والطرقات إلا مراهقين وشبابا من الجنسين مفرطين في الأناقة، ويتسربلون في أزياء تبدو عليها الفخامة ، يتحركون مثل فراشات ملونة أو لؤلؤا منثورا، ومواكبين لآخر خطوط الموضة في العالم. ويندر أن تجد شابا أو شابا وهو لا يتحدث بهاتف ذكي آخر موديل، أو يحمل جهاز كومبيوتر لوحي، أو يضع على أذنيه سماعة جهاز موسيقي رقمي. أما عن المناسبات والحفلات الشبابية المتعددة فحدث ولا حرج، ففي كثير من الساحات والحدائق والأسواق كثيرا ما تشاهد حفلات حية بمشاركة فرق بوب وروك وهيب هوب وبي بويز . كذلك فالمقاهي الشبابية الحديثة من ستار بك وغيرها من مقاهي الإنترنت والألعاب الإلكترونية منتشرة ببين كل ضاحية وضاحية، والملاهي الليلية وصالات الرقص لا تحصى، والمنتزهات ومجمعات وحدائق الترويح والترفيه الشبابي كثيرة ومتطورة ولا تقل عن ديزني لاند، وكل ذلك مجرد أمثلة وقليل من كثير، وغيض من فيض، وهو ما جعل من الهجرة لكوريا حلم الكثير من الشباب من الدول الآسيوية والأفريقية واللاتينية، وما جعل من الشارع الكوري والمجتمع الكوري مجتمع آخذ في التحول إلى مجتمع متعدد الجنسيات وشارع متنوع الوجوه والسحنات.
عليه فلا بد من أن هناك أسباب أخرى تدفع ذلك الشباب للهجرة، وإذا ما عرف السبب بطل العجب، فقد جاء في تلك التقارير ، وعلى ضوء العديد من الأبحاث والدراسات الميدانية واستطلاعات الرأي، أن ما يدفع أولئك الشباب للهجرة ليس هو البحث عن حرية منقوصة، ولا عن ترفيه مفقود، ولا عن ضيق في العيش، وإنما رفض لمفاهيم وقوالب وقيود وقوانين ومعايير اجتماعية ضيقة ومنفرة مفروضة على الشباب الذي يجد نفسه حبيسا رهنها ولا يستطيع التحليق خارجها. أول تلك الأشياء النظام التعليمي الصارم والمتجهم، فما أن يبدأ الشاب في الخروج عن الطوق حتى يجد أنه مطالب بضرورة إحراز درجات متفوقة في امتحان الدخول للجامعات وسط منافسة شرسة وحامية وإلا أعتبر فاشلا ووصمة في جبين الأسرة، ثم يجد نفسه مطالبا بالالتحاق بغير الجامعة أو التخصص الذي يريد وإنما الجامعة ذات الصيت الاجتماعي والبريق الذي تبحث عنه الأسرة. كذلك فالشباب في كوريا، إناثا وذكورا، مطالبون حسب النمط الاجتماعي السائد، وحسب الشكل الذي تربوا وترعرعوا عليه، بالعيش وفق مفاهيم كاذبة قائمة على التباهي والتفاخر، من ارتداء الملابس الثمينة الفاخرة، والأحذية ذات الماركات والعلامات التجارية العالمية المشهورة، وكما قالت فتاة فالمجتمع يحكم عليّ بواسطة حذائي ويثمنني حسب حقيبة يدي. وبسبب تلك المفاهيم صارت كل فتاة في كوريا تحس في دواخلها بأهمية أن تتألق كنجمة سينما لامعة، وصار كل شاب يتوق لأن يبدو مثل فنان بوب مشهور، وصار الاهتمام بالمظاهر والقشور الخارجية أهم من الجوهر والدواخل النقية، وكلها أشياء تغرس بكل الأسف نوعا من فقدان الثقة بالنفس والإحساس بالدونية والقصور وتسبب الكثير من العلل والمشاكل الاجتماعية الخطيرة.
الأمر بالنسبة لكوريا بالذات شديد الخطورة، فالمجتمع الكوري يهرول بسرعة خطيرة نحو الشيخوخة، ويعاني من ظاهرة تدني الإنجاب والتناقص المستمر في القوة الشابة المنتجة، في وقت تعتمد فيه الدولة على الصادرات والقوة الإنتاجية. وهكذا فإن هجرة الشباب الكوري على قلته وتناقصه العددي تمثل كارثة لدولة مثل كوريا. ظاهرة هجرة الشباب هي ظاهرة منتشرة في أغلب بلدان العالم، لكن أغلب هجرة الشباب في البلدان الأخرى هي بسبب البحث عن فرص عمل أو هروب من الفقر أو القمع والاضطهاد السياسي وما يراه هروبا من الجحيم، في حين أن الشباب الكوري، بسبب مفاهيم اجتماعية بالية، يضطر للهجرة والهروب من النعيم.

موضوعات بارزة

Close

يستخدم موقعنا الكوكيز وغيرها من التقنيات لتحسين الخدمة. مواصلة استخدام الموقع تعني أنك موافق على استخدام تلك التقنيات، وعلى سياسة موقعنا. عرض التفاصيل;