الذهاب إلى القائمة الذهاب إلى النص
Go Top

الثقافية

شجرة عميقة الجذور:

2015-01-20

سيول بانوراما

شجرة عميقة الجذور:
بصحبة صديق كوري حضرت ندوة ومعرضا خاصا عن الأبجدية الكورية التي تعرف في كوريا باسم " هانكول" وهي حروف الهجاء الكورية المبسطة التي كان قد اخترعها أحد أعظم وأشهر الملوك في التاريخ الكوري وهو الملك سيجونغ. قبل حضور الندوة والمعرض ، كنت أعرف عن الهانكول، من خلال تجربتي الخاصة، إنها أبجدية شديدة السهولة من ناحية، وشديدة الصعوبة من الناحية الأخرى. فحروف الهجاء نفسها، ثابتة ومتحركة ، محدودة العدد جدا ويمكن حفظها وإتقانها من ناحية شكلية على الأقل في يوم واحد، لكنها من ناحية حركة ونطق سليم تبدو صعبة جدا بالنسبة للأجنبي بالذات، وأقل تغيير في الحركة بالنسبة لأي كلمة قد يعطي معنى مختلفا تماما، مما يجعل الكوري غير قادر على فهمك تماما. نحن في اللغة العربية مثلا، وبسبب تعدد اللهجات واللكنات، نستطع فهم المقصود من الكلمة مهما تغيرت طريقة النطق، وحتى عندما يتحدث لنا الأجانب، والخواجات بصورة خاصة، بلغة عربية مكسرة، تُحوَل الحاء إلى هاء أو خاء، وتقلب المذكر مؤنثا، أو تجعل من المبتدأ خبرا، أو بالعكس، فإننا نفهم المقصود بسهولة ويسر. ربما يكون مرد ذلك هو أن حتى العديد من الشعوب العربية، في لهجاتهم الدارجة، يحولون بعض الحروف إلى حروف مختلفة تماما، فالمصريون يحولون حرف القاف إلى ألف، وحرف الجيم إلى قاف ،فيقولون "قميل أوي" وهم يقصدون "جميل قوي"، والخليجيون قد يحولون الكاف إلى جيم فيقولون "جبدي" وهم يقصدون "كبدي"، والسودانيون يقلبون القاف غينا أحيانا مما قد يحول الكلمة إلى نقيضها تماما حيث يصبح الملك "القادر" هو الملك " الغادر" و"القائم" الموجود هو "الغائم" الغائب وهكذا.
والكوريون، قبل اختراع الهانكول، كان عليهم تعلم اللغة الصينية والرموز الصينية للتعبير عن أنفسهم كتابة، والرموز الصينية صعبة ومعقدة وعسيرة على الشخص العادي البسيط ، لذا كانت الأمية شائعة جدا وسط الشعب الكوري. عُرف عن الملك سيجونغ إنه ملك محب ومكترث لرعيته وبلاده ووطنه وشعبه ويعرف مصالحه ويعمل من أجلها ، وهو ما دفعه لبذله مجهود كبير من أجل تطوير الأبجدية الكورية. لذا قرر ابتداع مجموعة جديدة من أحرف هجاء سهلة وبسيطة وقابلة لأن يتعلمها كل أفراد الشعب دون عناء حتى يمكنهم التواصل وتبادل الأفكار. ويرى الكثيرون إن ابتداع الأبجدية الكورية كان أكثر من مجرد ابتكار حروف هجاء جديدة، بل كان بمثابة ثورة ثقافية عظيمة مكتملة الأركان. لم يكن الأمر سهلا كما قد يتبادر لأذهان البعض، إذ أنه كان في حقيقته نتاج صراع عنيف وصعب ودامي بين مراكز القوى المختلفة وأصحاب النفوذ والمصالح الذاتية. فكر الملك وبعض أعوانه من الشباب ذوي الأفكار الإصلاحية والتجديدية في الأمر كوسيلة عملية وسهلة تمكن العامة في المملكة من التواصل والتعبير عن أفكارهم كتابة بشكل سهل وسلس، إذ أنهم لا يستطيعون لا قراءة ولا فهم القوانين المكتوبة باللغة الصينية الصعبة والمعقدة ، وبالتالي لا يتمكنون من التقيد بها وإتباعها، على عكس النبلاء والأرستقراطيين الذين يفهمون القوانين ويعرفونها جيدا، وهو ما يتيح لهم فرصة استغلال جهل العامة بها لتحقيق أغراضهم ومآربهم الشخصية. أدى ذلك إلى نشوب صراع بين فريقين متعارضين. فريق يقوده الملك سيجونغ وأنصاره من الإصلاحيين الشباب ينادي بالإسراع في الشروع في ابتكار الأبجدية الجديدة ،وفريق محافظ يقوده عدد من النبلاء والمحافظين ورجال الحرس القديم الذين كانوا يدعون للتمسك بالموروث القديم ومحاربة أي شكل من أشكال التغيير حتى وصل الأمر إلى درجة التآمر والاقتتال. وبعد انتهاء الندوة تم تقديم لقطات متفرقة وجميلة من مسرحية موسيقية بعنوان " شجرة عميقة الجذور" وهو الاسم الذي يطلقه بعض العلماء والأدباء والمثقفين على الأبجدية الكورية. كان قد تم إنتاج المسرحية بمناسبة اليوم العالمي للهانكول والذي صار بمثابة عيد من الأعياد الكورية التي يحتفل بها الشعب الكوري في كل عام أسوة بغيرها من المناسبات القومية من استقلال وتحرير، والتقليدية من أمثال بداية العام القمري الجديد وعيد الحصاد وعيد الشكر وغيرها. أظهرت المسرحية الموسيقية بشكل فني رائع وبديع وعبر مشاهد ملونة ومطرزة ومضيئة تم فيها استعمال التكنولوجيا الرقمية والإلكترونية بأسلوب مدهش وتوظيفها فنيا بشكل مبهر، خاصة مشهد إعلان الشروع في تنفيذ مشروع أبجدية الهانكول والذي كان مشهدا جامعا وعظيما ومتسما بالجمال والجلال والقوة مع إطلاق باقات من الفراشات التي قدر عددها بالملايين للتعبير عن أحلام وأحزان العامة عبر مؤثرات ضوئية مبهرة وتجاوب الجمهور بعاصفة من التصفيق مع ذلك الكم الهائل من الفراش المبثوث فوق خشبة المسرح. كانت تلك المشاهد المتناثرة كالشهب من المسرحية الموسيقية " شجرة عميقة الجذور " مسك الختام لتخليد ذكرى عمل تاريخي إبداعي خاص بأحد أهم وأعظم إنجازات أحد وأهم ملوك كوريا على مر التاريخ وهو الملك سيجونغ. كانت المناسبة التي أسعفني حظي بحضورها مناسبة جامعة أبرزت جانبا مما ظل يكنه الشعب الكوري على مر الأزمنة والعصور لملكهم العظيم سيجونغ مخترع ومبتدع الأبجدية الكورية العظيمة والخالدة "هانكول" التي يعتبرها الكوريون أحد أعظم ما حققته كوريا من إنجازات في تاريخها القديم والحديث ولهذا ستظل دوما وكما يطلق عليها الكثيرون " شجرة عميقة الجذور".

موضوعات بارزة

Close

يستخدم موقعنا الكوكيز وغيرها من التقنيات لتحسين الخدمة. مواصلة استخدام الموقع تعني أنك موافق على استخدام تلك التقنيات، وعلى سياسة موقعنا. عرض التفاصيل;