الذهاب إلى القائمة الذهاب إلى النص
Go Top

الثقافية

الجراح السبعينية النازفة :

2015-06-30

سيول بانوراما

الجراح السبعينية النازفة :
" الجراح السبعينية النازفة "، هي كلمات ثلاث ترددت كثيرا على لسان امرأة عجوز، أكل عليها الدهر وشرب، وهي تتحدث في برنامج تلفزيوني عن تجربتها ضمن نساء المتعة من النساء الكوريات اللائي أجبرن خلال شبابهن الباكر وصباهن الغض على ممارسة الرزيلة داخل معسكرات الجيش الياباني إبان الحرب العالمية الثانية، في ما يشبه الاغتصاب الجماعي اليومي المتكرر، مما ترك في دواخلهن جراحا غائرة لن تداويها الأيام مهما انقضت، وكرامة مهدرة لن يخفف من وطأتها وحرقتها أي معالجات من اعتذارات أو تعويضات لا يحتجنها، وهن على أعتاب القبر، ولم يتبقى من الألوف والمئات منهن على قيد الحياة سوى بضعة عشرات صرن يتساقطن كل صباح مثل أوراق الخريف، أو مثل حبات المطر فوق السواحل الممتدة. كانت الكلمات الجريحة النازفة تخرج من شفتيها اليابستين المشققتين بفعل الزمن والمرارة والحرقة والغضب واهنة متحشرجة مخلوطة بدموع جافة في المحاجر لكنك تحسها منهمرة كوابل المطر، وهي تصف إحساسها وهي تتذكر مع مشرق كل صباح، وعبر كل تلك السنوات الطويلة، ما تشعر به مثل خنجر مغروس داخل فؤادها المنحور الذي لا يكف عن النزيف. وعندما سألها مقدم البرنامج التلفزيوني قالت إنها تتذكر كل شيء منذ أن كانت صبية مدللة ومراهقة مرهفة وحالمة تتوق للقاء فتى أحلام رومانسي وسيم وهي تتجول هنا وهناك في مدينتها الهادئة. تقول " كنت فقيرة أبحث عن عمل، أي عمل يوفر لي ما يسد رمقي ورمق أمي المجهدة المريضة وشراء فستان استقبل به فتى الأحلام الذي أتوق إلى لقياه وأحلم به لكي ينقذني وينقذ أمي المريضة وينقذ أبي وراء القضبان في انتظار الإفراج عنه بكفالة. .وفي ذات يوم، التقيت برجل غريب قال انه سيوظفني في مصنع كي أكسب حفنة من مال قد تساعدني في تحقيق بعض مما أتوق له. كنت صبية مفعمة بالحياة لكنني ما كنت أعرف أن ذلك اليوم سيقودني إلى حياة أسوأ من الموت. كنت أتعذب في ذلك المصنع الذي لا يعرف الرحمة وأنا أنادي أمي كل صباح ومساء، و أبكي بصوت عال علها رغم مرضها وبعدها تسمعني وتعرف ما أنا فيه من عذاب ومعاناة وتأتي لإنقاذي ". كان ذلك بعض ما ذكرته تلك العجوز المسنة وهي أعتاب التسعين متذكرة تلك الأيام التي تلوح لها كوهم ضبابي وحلم مزعج وكابوس مرعب عندما تم تجنيدها وهي صبية مراهقة في الجيش الياباني قبل أكثر من خمسة وسبعين عاما. تقول إنها نذرت أن تكرس ما تبقى لها من أيام قلائل في هذه الحياة للتبصير بقضيتها وقضية الكثيرات من أمثالها وبينهن صديقات طفولة عزيزات وندائد صبا ورفيقات شباب . تقول إنها تدعو السلطات اليابانية لتقديم تعويضات والاعتذار عمما سببته من آلام وجراح نازفة لها ولأمثالها. تقول إنها شخصيا ليست بحاجة لمال وهي في مثل هذا العمر، وليس لها حتى من يرثها، وأن الاعتذار مهما كان، وحتى لو صدر عن قناعة صادقة وإحساس حقيقي بفداحة الجرم وبشاعة الجريمة، لن يداوي جراحا لم تعد قابلة للالتئام، لكنها تنادي به لأن الضحية مهما طال أوان عذابها ومهما استطال أمد جراحاتها تكون دائما حريصة على أن يقر ويعترف الجاني والمجرم بجرمه وألا يفلت من العقاب أبد الآبدين وأن ينال ولو قليلا مما يستحق من جزاء. والحقيقة إن نداء تلك السيدة العجوز لم يكن سوى استمرار للنداء الطويل المتصل المتواصل لأولئك الضحايا وما عانينه داخل جحيم معسكرات الجيش الياباني، وهو نداء انطلق للمرة الأولى بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، ويتجدد الآن على لسان تلك السيدة العجوز في ذكرى مرور 70 عاما على استقلال كوريا من الاستعمار الياباني. ان فضية نساء المتعة تمثل أعمق جرح لدى الكوريين أثناء الاستعمار الياباني لكوريا في النصف الأول من القرن العشرين، وهي ليست مجرد قضية استرقاق واستعباد جنسي لهؤلاء النسوة الضحايا، وليس محض إهدار لكرامة شعوب بأكملها في المنطقة الآسيوية وعلى رأسها الشعب الكوري، وإنما وصمة في جبين الإنسانية جمعاء وجريمة شنعاء نسيج وحدها في تاريخ البشرية. لكن رغم ذلك فمن المؤسف أن اليابان ما زالت تتلكأ في تقديم اعتذار صريح عما ارتكبته يداها، وما زالت تضن بتقديم تعويض مناسب لا يسمن ولا يغني عن جوع لنسوة يمضى بها قطار العمر لآخر المحطات وأبعدها، ويتقاطرن على الطابور المؤدي لبوابة الخروج النهائي. نساء المتعة كما يسميهن البعض، وفتيات الراحة كما يعرفهن البعض الآخر، والرقيق الجنسي كما يصفهن آخرون، كانوا قبل نحو سبعين عاما عدة ألوف من الفتيات الحسناوات والصبايا المتفتحات مثل الورود النضرة، والمـتألقات مثل اللآلئ البراقة المنثورة، والأزهار الندية الناضحة بالحياة والحيوية التي استلبها منهن جنود الاحتلال الياباني وهم يذبحون براءتهن ويدنسون طهرهن ويمتهنون كرامتهن، وها هي البقية المتبقية منهن ولا يزيد عددهن عن خمسين امرأة أصغرهن في عقدها التاسع يناضلن من أجل خروج نهائي يداوي ولو القليل اليسير من جراحهن السبعينية النازفة.

موضوعات بارزة

Close

يستخدم موقعنا الكوكيز وغيرها من التقنيات لتحسين الخدمة. مواصلة استخدام الموقع تعني أنك موافق على استخدام تلك التقنيات، وعلى سياسة موقعنا. عرض التفاصيل;