الفضيحة الرئاسية الكبرى التي عاشتها كوريا في الأسابيع الأخيرة بخصوص الرئيسة الكورية وصديقتها المقربة والتي أطلقت عليها وسائل الإعلام الكورية اسم "شوي غيت" والتي كادت أن تشل جميع مناحي الحياة في البلاد وسببت لكوريا الكثير من الخسائر على المستوى الاقتصادي والدبلوماسي والسياسي والأمني وأججت الكثير من الغضب والإزعاج للشعب الكوري، لم تكن شرا كاملا في مجملها، بل ربما كان لها بشكل أو بآخر بعض الإيجابيات والحسنات. خروج الملايين من المتظاهرين والمحتجين والغاضبين في تظاهرات ومواكب احتجاج حاشدة بشكل منتظم على مدار ستة أسابيع متتالية للتعبير عن رفضهم الكامل لما حدث ومطالبتهم باتخاذ اجراءات عقابية رادعة ضد كل من يثبت ارتكابه لخطأ أو ضلع في عمل من أعمال الفساد في تلك الفضيحة، وبذلك الشكل السلمي الحضاري الواعي أمر يثبت أن الشعب نفسه صار يتمتع برؤية وثقافة ديمقراطية رافضة لكل أشكال الفساد. التظاهرات الحاشدة التي قدر عددها بملايين المتظاهرين والتي كانت تنطلق منذ النهار ثم تتحول في الليل إلى مواكب هادرة على ضوء الشموع، والتي كانت تنفض في كل مرة بسلام ودون أي حوادث عنف أو أحداث انفلات ، أثبتت إن كل من المتظاهرين، وجلهم من الشباب من جانب، والشرطة والسلطات الأمنية المختصة من الجانب الآخر قد وصلت مرحلة من النضوج وصارت تتسم بقدر كبير من السلوك الحضاري، وإن الديمقراطية ، كممارسة وسلوك، بدأت تتشكل وتتجذر في المجتمع الكوري بشكل يدعو للإعجاب ، على خلاف ما كان يحدث في الماضي، عندما كانت أجهزة الأمن والشرطة تلجأ للعنف المفرط في فض وتفريق المتظاهرين، مما كان يخلف أعداد كبيرة من الضحايا على نحو ما حدث في الكثير من المجازر التي ما زالت تتذكرها كوريا بكثير من الحزن والأسى والأسف. رغم ضخامة الحشود فإن تلك التظاهرات والمواكب لم تشهد حتى مجرد عمليات إطلاق القنابل المسيلة للدموع كما يحدث في الكثير من بلدان العالم ناهيك عن الذخيرة الحية. الفضيحة كشفت كذلك عن توجه حقيقي وحاسم لإزالة كل مظاهر الوجه القبيح للممارسات الفاسدة التي ارتبطت باسم كوريا عبر تاريخها الطويل مما جعل من اسم كوريا صنوا للفساد والكثير من الممارسات القبيحة من رشوة واستغلال نفوذ وتداخل وتشابك وابتزاز وارتباط بين عالميّ المال والسياسة وقيام شركات وهمية ووجود حسابات مصرفية بأسماء مصرفية مزيفة. درج الكثير من السياسيين الكوريين النافذين على استغلال نفوذهم لصالح مساعدة شركات كبرى في تنفيذ وتطوير وتسويق مشروعات خاصة بصور غير مستحقة مقابل عمولات ورشاوي ضخمة وهو ما كان يعرف حتى وقت قريب بالمرض الهولندي. حتى وقت قريب جدا كانت مثل تلك الممارسات القبيحة هي مظاهر وظواهر واضحة ومحسوسة في العمل الاقتصادي والتجاري في كوريا الذي كان يتسم لحد كبير بالافتقار للشفافية وتجاوز الكثير من الخطوط الحمراء. فضيحة شوي غيت شملت جانبا هاما من تلك الممارسات من خلال استغلال نفوذ الرئيسة لإجبار عدد من الشركات التجارية الكبرى لتقديم تبرعات ومعونات لشركات وهمية مرتبطة بالصديقة التي استغلت صداقتها وقربها وثقة الرئيسة بها لتحقيق مكاسب وجني ارباح شخصية عن طريق الممارسات الفاسدة، ومن المؤكد أن الغضب الشعب العارم الذي وجهه الشعب الكوري لمثل تلك الممارسات سيجعل من تكرارها أمرا صعبا. الجميل في الأمر إن السواد الأعظم من المتظاهرين كانوا من الشباب صغير السن الذي لم ينشأ ولم يتربى مثل آبائهم الذين كان الفساد جزءا من تكوينهم حسب الثقافة الكونفوشية السائدة في البلاد والتي لم تكن تضع الكثير من الفواصل بين ما هو شرعي مشروع وما هو مفتقر للشرعية، والتمييز بين ممارسات الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ وعمليات تقديم الحوافز والمكافآت والهدايا والتعبير عن الامتنان. التظاهرات كذبت كذلك بعض المفاهيم التي كانت سائدة في كوريا من أن الشباب الكوري شباب لا يهتم بالسياسة وإن كل همه مرتكز على الرقص والكي بوب والغناء والموسيقى فقد أثبت ذلك الشباب إنه شباب تشرّب بروح الديمقراطية ويرفض كل المظاهر الفساد. ما حدث من جراء الفضيحة أثبت أيضا إن هناك حاجة للقيام بتعديلات جوهرية في الدستور الكوري، فرغم كل ذلك الزخم وكل تلك الأعداد الهائلة التي تقدر بالملايين ممن طالبوا بمحاسبة برلمانية تمهد لعزل الرئيسة تبين إن صوت قاضي واحد فقط من أصوات القضاة التسعة الأعضاء في المحكمة الدستورية يمكن أن يقلب الأمور من إدانة إلى تبرئة أو العكس. الإيجابيات التي أفرزتها الفضيحة الرئاسية كثيرة ولا تقل عن السلبيات، فكما كان للفضيحة وجهها المظلم القميء الكالح كان للفضيحة وجهها المشرق، والأمل معقود في أن يزيل ويبدد الوجه المشرق كل مظاهر القبح والدمامة للوجه الكالح القبيح.
