الذهاب إلى القائمة الذهاب إلى النص
Go Top

الثقافية

سقوط رئيسة :

2017-03-14

سيول بانوراما

سقوط رئيسة :
العاشر من مارس 2017 سيكون تاريخا محفورا بحروف من نار في ذهن الرئيسة الكورية الجنوبية السابقة بارك كون هاي، فهو يوم تكون قد حققت فيه مرة أخرى سبقا تاريخيا جديدا يضاف إلى سجلات تاريخية جديدة حققتها للمرة الأولى في التاريخ الكوري في أوقات سابقة، فهي أول امرأة تتولى منصب الرئاسة في تاريخ كوريا وتاريخ منطقة شمال شرق آسيا التي تضم أكبر وأعظم الدول الآسيوية مثل الصين واليابان وكوريا. وبعد مقتل والدتها في نهاية سبعينات القرن الماضي صارت اول فتاة كورية وآسيوية تتاح لها فرصة القيام بمهام السيدة الأولى في البلاد ومساعدة والدها الجنرال "بارك جنغ هي" باني النهضة الاقتصادية الكورية وصانع ما صار يعرف باسم المعجزة الاقتصادية على نهر الهان، وقد ادت المهمة بتميز وقدرة واضحة وهي آنسة وشابة في ريعان شبابها. ورغم أن الكثيرين كانوا يعتبرون والدها رغم انجازاته زعيما دكتاتورا متسلطا باطشا حكم البلاد بيد من حديد حتى اللحظة الأخيرة التي تم فيها اغتياله، قبل أن تتحول كوريا إلى دولة ديمقراطية حرة تسير سيرا حثيثا في ركب الديمقراطية والحرية، إلا أن الابنة التي كانت السيدة الأولى في عهده نجحت في التماهي والتكيّف مع الأوضاع الجديدة للبلاد وأن تستفيد من الجانب المشرق والنواحي الإيجابية لتاريخ والدها الراحل، والتغلب على الجانب المظلم والكالح والنواحي السلبية لذلك التاريخ، وتنخرط في الحياة السياسية في البلاد، وتحقق انتصارات متتالية قادتها لأن تتولى المنصب الرئاسي الأكبر في البلاد بشكل ديمقراطي كامل الدسم وفي انتخابات حرة ونزيهة وشفافة لم يختلف عليها اثنان، وصارت مرة أخرى ليست مجرد السيدة الأولى بمعايير البروتكول الصرفة وإنما السيدة المطلقة والرئيسة الكاملة للبلاد في دولة ومجتمع عُرف بتعصبه الذكوري حسب الموروثات والمعايير الكونفوشية السائدة. رغم كل تلك السجلات والسوابق الفريدة والرائدة التي سجلتها الرئيسة بارك إلا أن الساعة ال11 من صباح الجمعة الموافق 10/3 / 2017 سجل لها سابقة أخرى، إلا أنها بكل اسف سابقة قبيحة كالحة، ربما تحرق كل ذلك التاريخ النوراني المشرق ، وذلك عندما أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها بالإجماع عبر جلسة قصيرة تم بثها مباشرة عبر أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة بتأييد قرار المحاسبة الصادر عن البرلمان الكوري الجنوبي والعزل الفوري لرئيسة الجمهورية وذلك بعد مرور 92 يوما منذ ظهور ما ظل يطلق عليه اسم الفضيحة الرئاسية الكبرى التي وٌجهت فيها العديد من الاتهامات ضد الرئيسة بانتهاك الدستور وإساءة استخدام السلطة واستغلال النفوذ والرشوة والابتزاز والإهمال في إدارة شئون البلاد وغيرها من التهم الجانبية. وبذلك الحكم تصبح الرئيسة هي أول رئيس في التاريخ الكوري يتم عزله وإقالته بموجب حكم قانوني. وجاء في قرار المحكمة إنه رغم صعوبة إثبات كل التهم الموجهة ضد الرئيسة إلا أن المحكمة اقتنعت بأن التهم التي ثبت للمحكمة تورط الرئيسة فيها والخاصة بعلاقتها بصديقتها المقربة وتمكينها من التدخل في الشئون العليا للدولة دون تفويض دستوري، وببعض الشركات التجارية الكورية الكبرى لمصالح خاصة، كافية وكفيلة بتأييد قرار المحاسبة البرلمانية الذي أوصى بإقالة الرئيسة من منصبها. وكان البرلمان قد أجاز قرار توجيه الاتهام ضد الرئيسة بارك في يوم 9 ديسمبر العام الماضي، بتهم السماح لصديقتها المقربة التدخل في شؤون الدولة والتواطؤ معها لابتزاز الأموال من الشركات المحلية والتقاعس عن أداء واجباتها أثناء كارثة غرق العبارة في عام 2014 التي أودت بحياة أكثر ٍمن 300 شخص.
يرى البعض، خاصة خارج الفضاء الكوري المباشر، إن القضية في مجملها هي قضية فساد مالي، لكن في تقديري فإن الفساد المالي هو مجرد جانب صغير من المشكلة، فالمبلغ المتعلق بالقضية لا يزيد عن ستين مليون دولار وهو مبلغ صغير وربما تافه بالمقاييس الكورية التي تتحدث الآن بلغة ترليونات الدولارات. المشكلة التي اثارت كل ذلك الغضب الشعبي العارم في تقديري هي أن الرئيسة خانت الثقة التي أولاها لها الشعب الكوري، ولم تحترم قدسية المهمة التي أوكلها لها، كما أنها لم تحسن قراءة المشهد الذي بدأ في التشكّل والتطور منذ ظهور الفضيحة للسطح، وتعاملت مع كل التطورات إما باستخفاف أو عناد أو عنجهية وهو ما أوصل الأمر إلى تلك النهاية المأسوية المحزنة. مسببات الغضب لم تكن مجرد حفنة من الدولارات كما أسلفنا ، وإنما في فشل الرئيسة في التعامل مع ذلك الغضب وحصاره ومعالجته بحكمة مما أسفر عن تناميه وتطوره. كان في مقدور الرئيسة في تقديري من البداية الاعتراف الصريح بما ارتكبت من خطأ خاص بإساءة استعمال السلطة والسماح لصديقتها المقربة التدخل في إدارة الشئون العليا للبلاد دون تخويل دستوري، ومن ثم الاعتذار للشعب الكوري عن ذلك ثم الاستقالة. هكذا كان بمقدورها أن تحفظ لنفسها كل الجانب النقي الناصع من تاريخها، والجزء المشرق والمشرّف من تاريخ والدها الزعيم الراحل وإرثه القديم، ولكوريا وحدة وتضامن شعبها ومواصلة مسيرتها التنموية، وسط متغيرات عالمية عديدة وحساسة ، في مشهد كان سيصفق له العالم والكثيرون من أفراد الشعب الكوري كثيرا، لكنها اختارت مشهد النهاية المأسوي الذي يصوّر انزواء وخروج البطل جريحا مكتئبا مهزوما يجرجر خطواته نحو الأفق البعيد المجهول

موضوعات بارزة

Close

يستخدم موقعنا الكوكيز وغيرها من التقنيات لتحسين الخدمة. مواصلة استخدام الموقع تعني أنك موافق على استخدام تلك التقنيات، وعلى سياسة موقعنا. عرض التفاصيل;