الذهاب إلى القائمة الذهاب إلى النص
Go Top

الثقافية

قصة بلدين:

2017-03-21

سيول بانوراما

قصة بلدين:
كان لكل من البلدين المتجاورين في الأسابيع القليلة المنصرمة قصة مختلفة رغم ما بينهما من إرث تاريخي قديم مشترك وموروثات جينية متشابهة وقواسم عرقية متماثلة. في أحد البلدين الجارين، أخطأت رئيسة ذلك البلد الذي جاءت على أكتاف الجماهير عبر انتخابات ديمقراطية حرة نزيهة فسمحت لصديقتها المقربة لأربعين عاما بالتدخل في شئون البلاد دون صفة رسمية دستورية مما أغضب تلك الجماهير فثارت عليها وأجبرتها بحكم ونص القانون على ترك السلطة غير مأسوف عليها في فضيحة لم تشهد البلاد مثيلا لها من قبل. وعلى بعد أمتار قليلة دارت قصة مختلفة تماما في الدولة المجاورة. حيث قام زعيم تلك البلاد المجاورة الذي ورث السلطة عن والده الزعيم الدكتاتور الباطش رغم أنه لم يكن الوريث المستحق إذا تخطى شقيقيه الذين يكبرانه سنا لاعتبارات سلطوية، قام بتدبير جريمة بشعة شنيعة مروّعة لاغتيال أخيه غير الشقيق خوفا من أن يهدد وجوده سلطته، فصفق له الكثيرون من جماهير شعبه المغلوب على أمره إما خوفا أو حرصا على مصالح ذاتية ضيقة. نتحدث اليوم عن قصة بلدين، كانا في الواقع بلدا واحدا قبل أن ينقسما إلى بلدين، وصار يمضي كل واحد منها في طريق مختلف تماما عن الطريق الذي يمضي فيه البلد الأخر، ولذا صار لكل واحد من البلدين روايته الخاصة وحكايته الذاتية وقصته المختلفة، وهو ما يجعلنا نستطيع أن نروي القصتين المختلفتين اختلاف الليل والنهار والبعيدتين عن بعضهما البعض بعد المشرقين والمغربين في قصة واحدة هي قصة بلدين. والبلدان رغم قربهما الجغرافي حيث لا تفصل بينهما سوى بضعة أمتار وحيث يتشاركان حدودا طويلة وإن كانت مدججة بالسلاح ومحتشدة بالمخاطر وقابلة للانفجار والاشتعال في أي لحظة، ويتقاسمان نفس الاسم وذات التاريخ القديم وثقافة كانت مشتركة قبل أن تغرق في لجج تباين الأفكار واختلاف طرائق التفكير والمناهج والرؤى والبرامج والخطط والأهداف، عبر ستين عاما متتالية. ورغم أنها ليست فترة طويلة بحساب التاريخ، إلا أن ما صنعت من حواجز واختلافات وتباين ما يجعل من البلدين وكأنهما يعيشان في كوكبين مختلفين، وفي عصرين وزمانين متباعدين. البلد الأول في قصتنا اليوم هي كوريا الشمالية التي تعيش في فقر مدقع وفاقة متفشية وخوف مستشري وتخلف مريع وقمع وبطش ورعب وانغلاق. وهو رغم كل ذلك الواقع المؤسف والبائس يبدد كل ما يملك من ثروات وموارد قليلة محدودة في تحشيد الجيوش وجمع الأسلحة بكل اشكالها وبذل الغالي والنفيس في أوهام وبرامج نووية وصاروخية في وقت يموت فيه الأطفال جوعا ويفتقرون لأبسط الحقوق الإنسانية من صحة وتعليم وترفيه. والبلد الثاني هو كوريا الجنوبية التي تحيا في رغد ونعمة ووفرة وازدهار وحياة اجتماعية وسياسية وثقافية وفنية منفتحة وحرية وديمقراطية واحترام للحقوق الإنسانية، لكنها رغم ذلك مهددة من جارها الشمالي الذي لا يبالي بأي قوانين دولية ولا يعبأ لاحتياجات شعبه المغلوب على أمره ولا يهمه سوى أن تحيا القيادة السياسية والعسكرية العليا للبلاد وهم قلة من المنتفعين حياة طيبة مترفة.
حدثني صديق ظل يعمل لوقت طويل في منظمات إغاثة دولية أتاحت له ظروف عمله زيارة كوريا الشمالية عشرات المرات حيث قال إن ما شاهد وعايش على الطبيعة لا يمكن حكيه أو حتى تخيله إلا لمن عاشه وعايشه، وقال إنه بحكم طبيعة عمله زار عشرات البلدان في العالم إلا أن ما شاهده وعاشه في كوريا الشمالية مختلف عن كل ما سواه من حيث الغرابة والسرية والمفارقات. قال إنه رغم كل تلك الزيارات المتعددة وكل تلك السنوات الطويلة التي قضاها هناك لم يتمكن أن يتحدث إلى شخص سوى مرافقيه الرسميين في إطار العمل الرسمي، وإن الناس في الطرقات العامة يتجنبون الشخص الأجانب تجنب السليم للأجرب، ويتفادون حتى مجرد نظرة عابرة ناهيك عن تحية أو ابتسامة أو حتى كلمة شكر أو اعتذار إذ أن أي شيء عابر يجمع بين مواطن وأجنبي يمكن أن يشكّل ملامح مخالفة بحكم القانون، فالمجتمع الكوري الشمالي قائم على الانغلاق المطلق، وليس مسموحا لمواطن الاطلاع على أي معلومات غير تلك التي توفرها له الدولة عبر وسائل إعلامها الرسمية الموجهة، فالمواطن يجب ألا يعرف سوى إنه يعيش في دولة مستهدفة من الأعداء من الشياطين الأمريكيين وأبواقهم من العملاء الكوريين الجنوبيين واليابانيين الذين يتبرصون بهم ويضمرون لهم شرا مما يستوجب الحذر واليقظة. وعندما انتهى من قصته ونحن جالسان في ذلك المقهى الفخم في العاصمة الكورية الجنوبية سول المطل على عمارات وناطحات سحاب وأسواق عامرة بكل ما لذّ وطاب وأنهار تتخلل تلك الأسواق، وجسور تعبر تلك الأنهار . قال لي لا يمكن أن اقارن ولا يمكن أن أصدق إنهما كانا بلدا واحدا وإن شعبيهما كان شعب واحد إذ يعيش كل منهما الآن في كوكب مختلف تماما. هنا قصة بلدين تبدو مختلفة وغير قابلة للتصديق وغير ممكن سردها مهما حاولت ذلك مستعينا بكل قدرات شارلس ديكنز الأدبية والبلاغية والإبداعية وهو يروي قصته الخالدة "قصة مدينتين".

موضوعات بارزة

Close

يستخدم موقعنا الكوكيز وغيرها من التقنيات لتحسين الخدمة. مواصلة استخدام الموقع تعني أنك موافق على استخدام تلك التقنيات، وعلى سياسة موقعنا. عرض التفاصيل;