الذهاب إلى القائمة الذهاب إلى النص
Go Top

الثقافية

قوة الجماهير:

2017-03-28

سيول بانوراما

قوة الجماهير:
الأزمة الخانقة والفضيحة الرئاسية الكبرى التي عاشتها كوريا خلال الأشهر الأخيرة لم تكن في حقيقتها شرا مطلقا، ولا وجها قبيحا في مجمله، ولا نتاجا صفريا أو حصادا سلبيا في حصيلته النهائية، بل هي في الواقع، وبمختلف الحسابات، وبكثير من المعايير والمقاييس، تمثل تطورا يحتوي على العديد من الإيجابيات يمكن تلخيصه في كلمتين فقط هما قوة الجماهير.
ظلت كوريا عبر تاريخها الطويل ولجزء كبير من تاريخها الحديث دولة مركزية موجهة وتابعة لسلطة القيادة المركزية العليا سواء بأشكالها الملكية القديمة أو من خلال الأنظمة الجمهورية العسكرية السلطوية الدكتاتورية الباطشة التي تعاقبت عليها منذ الاستقلال إلا لفترة قصيرة قبل أن تدخل مرحلة الديمقراطية الكاملة في مطلع حقبة التسعينات من القرن الماضي. الأسباب التي أدت إلى ذلك متعددة ومنها ما هو مرتبط بوضعها الجغرافي والاستراتيجي، أو بالتطورات التاريخية، ومنها ما هو خاص بالموروثات الثقافية والحضارية والقومية. ظلت شبه الجزيرة الكورية عبر تاريخها الطويل دولة مستهدفة من قبل قوى إقليمية وعالمية عظيمة عديدة منها اليابان التي احتلت كوريا لفترات متفاوتة في تاريخها ومنها الممالك الصينية القديمة ومنها روسيا والاتحاد السوفيتي ومنها قوى أوربية ومنها اخيرا الولايات المتحدة الأمريكية والحرب الباردة التي تجلت في شبه الجزيرة الكورية في أوضح صورها. كل ذلك جعل كوريا دولة مركزية القيادة. وبجانب التاريخ والجغرافيا لعب الموروث الثقافي والحضاري دورا مهما في ذلك تمثل في المفاهيم البوذية والكونفوشية التي أسهمت في خلق مجتمع أبوي تراتبي يعطي للوالد والأب والأسرة والسن والثروة والوضع الاجتماعي دورا قياديا نموذجيا في تسيير وتوجيه المجتمع والانصياع للقيادة. كل ذلك جعل المجتمع الكوري مجتمعا سهل التعبئة والتجييش والتشكيل والقيادة، على نحو ما تبدّى في وقوع كوريا الشمالية تحت قيادة بدأت سلطوية عقائدية شيوعية وانتهت إلى حكم وراثي جمهوري شيوعي طامع إلى مد نفوذه إلى كل شبه الجزيرة الكورية في ظاهرة لم يعرف التاريخ لها مثيلا من قبل، وحتى تحمي كوريا الجنوبية نفسها من أطماع وتهديدات جارها الشيوعي كان عليها أن تتقبل، كأولوية وضرورة، الحماية الأمريكية والأنظمة العسكرية السلطوية.
وجود مجتمع قابل للتعبئة والتجييش هو سلاح ذو حدين وأمر مزدوج التأثير، فهو قد يعني وجود مجتمع سهل القيادة والانقياد وقابل للرضوخ مما قد يساعد في قيام أنظمة متسلطة ودكتاتورية، لكنه قد يعني كذلك مجتمع منظم ومتضامن وقابل للتحرك بروح القطيع ، وقادر على الثورة والرفض والوقوف بقوة وصلابة من أجل حقوقه ووراء مطالبه ورؤاه وأهدافه، وهو ما دفع الشعب الكوري للانتفاضة والثورة من أجل الحرية والديمقراطية والتصدي للأنظمة العسكرية الباطشة في ثمانينات القرن الماضي مما قاد البلاد للحكم الديمقراطي الذي بدأ يتأسس ويغرس جذوره بشكل مستمر ومتطور على نحو ما حدث في التطورات الأخيرة التي شهدتها البلاد وأدت إلى الإطاحة بالرئيسة الكورية بارك بذلك الشكل السلمي الحضاري الذي مثل القوة الحقيقية لإرادة الجماهير.
الخطأ والجريمة الحقيقية التي ارتكبتها الرئيسة الكورية والتي أغضبت الشعب بكل تلك الحدة لا تتعلق بالفساد كما يرى بعض الأجانب، فالمبلغ الذي يمثل جانب الفساد المالي في القضية هو مبلغ تافه بالمعايير الكورية، فهو حوالي أربعين مليون دولار فقط في بلد مثل كوريا صار يتحدث بلغة ترليونات الدولارات الآن، لكن ما أغضب الشعب حقا هو أن الرئيسة خانت الثقة التي أولاها لها الشعب، حينما سمحت لصديقتها المقربة بالاطلاع على أسرار الدولة والمساهمة في تسيير شئونها دون صلاحيات دستورية وهو ما رآه الشعب استخفافا واستهتارا بالقيم العليا للبلاد، وإساءة لاستخدام السلطة.
الديمقراطية كلمة يونانية الأصل بمعنى حكومة أو سلطة الشعب، فالشعب بالمفهوم الديمقراطي يحكم نفسه بنفسه، وهو مصدر السلطات في الدولة، فهو الذي يختار الحكومة، وشكل الحكم، والنظم السائدة في الدولة؛ السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية؛ بمعنى أن الشعب هو أساس الحكم، وأساس السلطات في الدولة، وهو مصدر القانون الذي تخضع له الدولة، أي أن الديمقراطية الحقيقية تعني قوة الجماهير، وما فعلته الجماهير الكورية في الأيام الماضية يثبت أن كوريا، رغم كل ذلك التاريخ السلطوي الطويل الذي يمتد السنوات، استوعبت الدرس بسرعة، وتمكنت خلال فترة قصيرة لا تتجاوز 25 عاما من غرس وترسيخ قاعدة صلبة لديمقراطية حقيقية فاعلة مرتكزة على قوة الجماهير.

موضوعات بارزة

Close

يستخدم موقعنا الكوكيز وغيرها من التقنيات لتحسين الخدمة. مواصلة استخدام الموقع تعني أنك موافق على استخدام تلك التقنيات، وعلى سياسة موقعنا. عرض التفاصيل;