الطريق الحريري :
تناولنا في الحلقتين الماضيتين حكاية الجاسوس فوق العادة ، والخبير والبروفسور الذي انتحل الاسم العربي "محمد كانسو"، وهي حكاية وصفتها وسائل الاعلام بالأغرب من الخيال، ووصفته بالجاسوس المتعدد المواهب والقدرات والدرجات العلمية والألسن والمهارات والأسماء. قلنا إن كوريا الشمالية زرعت ذلك الجاسوس الذي يتحدث العربية بطلاقة ضمن حوالي عشر لغات عالمية أخرى، وهو ما ساعده على أن يصبح بروفسورا جامعيا وخبيرا متخصصا في اللغة والتاريخ والثقافة العربية والإسلامية في كوريا الجنوبية. ورغم انكشاف أمره كجاسوس وسجنه لعدة سنوات، إلا ان مهاراته وقدراته الفذة ساعدته على الخروج من السجن بعفو رئاسي ، وعلى اكتساب الجنسية الكورية الجنوبية، وتبوء عددٍ من الوظائف العليا والقيام بمهام متفردة كعالم فذ وخبير موسوعي وكاتب مقروء ومحاضر متمكن ومؤرخ وباحث متخصص في مجال حيوي وهو الطريق الحريري، وما أدراك ما هو الطريق الحريري.
طريق الحرير لقب أطلق على مجموعة طرق مترابطة كانت تسلكها القوافل والسفن التجارية بين منطقة شمال شرق آسيا وأوروبا بطول 10 آلاف كيلومتر لأن الحرير كان يمثل النسبة الأكبر من تلك التجارة، وقد كان له تأثير كبير في ازدهار كثير من الحضارات القديمة، مثل الصينية والمصرية والهندية والرومانية، وينقسم إلى فرعين، فرع شمالي عبر أوروبا و فرع جنوبي عبر العراق وسوريا إلى مصر وشمال إفريقيا، وقد توقف طريق الحرير كخط ملاحي للحرير مع انهيار الإمبراطورية العثمانية، لكن مطلع تسعينيات القرن الماضي شهد تجدد محاولات لتنشيط الطريق عبر ما عرف بالجسر البري الأوروبي الآسيوي، الذي يصل بين الصين وروسيا وألمانيا ليتصل بشبكة سكك حديدية أوربية واسعة ومنتشرة ، ويلعب دورا جوهريا في تعزيز التجارة بين آسيا وأوروبا وإفريقيا ، وهو ما دفع بعض الدول الرئيسية في المنطقة ومن بينها كوريا الجنوبية والصين للتفكير في برامج وخطط لاستثمارات ضخمة قد تتجاوز ترليونات الدولارات، مثل السياسات والمبادرات التي أعلن عنها الرئيس الكوري مون جي إن باسم " السياسة الجنوبية الجديدة" و" الطريق الحريري الرقمي" ، والرامية لربط الكوريتين بخطوط سكك حديدية تمر عبر الصين وروسيا وعدة بلدان أوروآسيوية وتنتهي في أوربا، وكذلك الإعلان الصيني عن خطة لتأسيس طريق حريري جديد أسماه الرئيس الصيني" حزام واحد، طريق واحد".
حول الطريق الحريري كتب البروفسور محمد كانسو عشرات الموسوعات والمجلدات والمؤلفات، وشغل منصب مدير المعهد الكوري للتبادل الحضاري وهو أول معهد عالمي متخصص فقط في الدراسات الخاصة بالطريق الحريري بين الماضي والمستقبل. ومن خلال أبحاثه الكثيرة والمتعددة يقول كانسو إنه قد توصل لمعلومات وحقائق جديدة حول ذلك الطريق وأهمها إن الطريق كان يبدأ فعلا من كوريا وليس من الصين، كما هو شائع، وتحديدا من إقليم جيونغسانغ الشمالي، وأشار إلى أن الحفريات أثبتت أن الكثير من الآثار الخزفية الخاصة بمملكة شيللا والتي جرى اكتشافها شبيهة ومماثلة لآثار رومانية مما يؤكد أن تبادلات تجارية واسعة جرت عبر الطريق الحريري ومنها تمثال لمريم العذراء وصليب يعودان للقرن الثامن الميلادي تم العثور عليهما داخل بقايا معبد بوذي قديم. وفي أخر مرجع موسوعي له عن ذلك الطريق يشير إلى أنه تمكن من فك طلاسم ما يقارب ألفين مصطلح خاص بطريق الحرير في حين إن عدد المصطلحات التي تضمنتّها أكبر موسوعة سابقة، وهي يابانية، تقلّ عن مئتي مصطلح. ويخلص في تلك الموسوعة الأخيرة إلى أن الحضارة الإنسانية هي في الواقع نتاج تفاعل بين عدة مجموعات عرقية وأثنية، وتعايش و تبادل حضاري واسع ومتنوع، وقد كان للطريق الحريري بالذات دور ملموس ومؤثر في هذا الشأن، وهو ما لعبت فيه شبه الجزيرة الكورية ، حسب الآثار التاريخية المؤكدة، دورا جوهريا ومحوريا، ويخلص أيضا إلى أن اتقانه للغة العربية، ومعرفته الواسعة بخلفية الثقافة العربية وتطور التاريخ العربي ، أشياء ساعدته في القيام بكل تلك الأبحاث العميقة والجادة، فالكثيرون في هذا العالم يعرفون الكثير عن الغرب أدناه وأقصاه، ومثلهم من المتبحرين اللذين يدركون الكثير المثير عن الشرقين الأقصى والأدنى، في حين أن الشرق الأوسط بالذات، وهو منهل الكثير من الثقافات والحضارات، ومهبط كل الديانات السماوية، ونقطة الوصل بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، لم يجد الاهتمام الكافي ولا الدراسة المستفيضة اللازمة، وهو ما جعله يغوص في أعماق الأبحاث الخاصة بتلك المنطقة ليقدم كل ذلك الكم المدهش والهائل من الدراسات والمعارف الموسوعية المتنوعة.
المؤرخ والباحث والخبير محمد كانسو، والجاسوس الكوري الشمالي جونغ، والدبلوماسي الصيني، والبروفسور الكوري الجنوبي، والمواطن الفلبيني اللبناني، ليس مجرد شخص متفرد ورجل متعدد المعارف ومتنوع المواهب، وجاسوس فوق العادة كما جرى وصفه، بل هو، بمختلف المقاييس، إنسان فوق المعتاد، وربما بشكل يجعل منه شخصية أقرب للخيال.