قدمت فرقة الأوبرا القومية الكورية عرض أوبرا "أورلاندو فينتو باتسو Orlando Finto Pazzo" في مركز إل جي الفني في جنوب سيول في الفترة من الـ18 وحتى الـ21 من مايو، وهي أوبرا تعود لعصر الباروك في القرن الثامن عشر، من تأليف الموسيقار الإيطالي الشهير "أنطونيو فيفالدي Antonio Vivaldi " الذي اشتهر برائعته الخالدة "الفصول الأربعة". تصوّر هذه الأوبرا سبع شخصيات مختلفة، بمن فيهم بطلها أورلاندو، في سلسلة من الأحداث المثيرة التي تتراوح بين الحب، والغضب، والغيرة، والرغبة في الانتقام.

تعتبر هذا العمل الأوبرالي تحفة فنية يزيد عمرها عن ثلاثمائة عام، وقد تورات عن أنظار المهتمين بالموسيقى مع مرور الوقت. لكن الفرقة الكورية القومية للأوبرا اتخذت قرارا بإعادة وضعها تحت دائرة الضوء، من خلال تقديمها للمرة الأولى في قارة آسيا، حيث أبهرت الجمهور الكوري. وكان أكثر ما يميز هذا العرض صوت كوري موسيقي كلاسيكي متفرد للفنان الذي قام بدور البطولة، وهو الكاونترتينور Countertenor الكوري "جونغ سي مان 정시만".

تتميز رئتا المغني الكاونترتينور بقوة ومرونة وقدرة عالية تساعده على إصدار مجموعة مختلفة وواسعة التنوع من الأصوات. ورغم أن الصوت الصادر عن الكاونترتينور يتميز بحلاوة ونعومة، إلا إنه يتميز كذلك بقوة خفية تجعله مختلفا عن الصوت الأنثوي، وبنضج يميزه عن الصوت الطفولي. وربما كان ذلك من بين الأشياء التي جذبت الجمهور.

اثنان من مغنيي الأوبرا من الكاونترتينور أظهرا إبداعا في أوبرا "أورلاندو فينتو باتسو"، وهما "ديفيد دي كيو لي David DQ Lee" الذي يعتبر رائد أصوات الكاونترتينور في كوريا، والفنان الصاعد "جونغ سي مان" الذي تألق للمرة الأولى في هذه الأوبرا وأدهش بموهبته كل من استمع إلى صوته القوي والجديد.

وعلى الرغم من أن هذا هو العرض الأول له في كوريا، إلا أن الكاونترتينور جونغ سي مان تمكن من تحقيق ظهور متقطع في فترات متباعدة في بعض الأعمال الفنية في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد حصل على جائزة أفضل فنان مبتدئ في مسابقة "ألكسندر غيرادي Alexander Girardi" الغنائية الدولية في ألمانيا في عام 2009، كما فاز بلقب أفضل كاونترتينور في مهرجان "فرانسيسكو فيناس Francisco Vinas" الدولي في إسبانيا في عام 2010. وفي العام الماضي فاز "جونغ" بجائزة الأوبرا التذكارية العالمية "آرثر إي وولتر Arthur E. Walter "، ثم انضم إلى وكالة "كين بينسون Ken Benson " الخاصة بالفنانين ذوي المواهب الواعدة في مجال الأوبرا.

كان جونغ منذ طفولته معجبا بالموسيقى الكلاسيكية، لكنه لم يبدأ حياته كمغنٍ كلاسيكي. فقد درس الموسيقى وتخصص في العزف على الكمان خلال المدرسة الثانوية، ثم غيرت صدفة مجرى حياته، عندما شارك بالغناء في حفل داخل كنيسة.

في ذلك الوقت لم يكن مصطلح "كاونترتينور" أو مجال التدريب والتمرين على ذلك النوع من الغناء معروفا في كوريا، إلا أنه قرر أن يقتحم ذلك المجال المجهول.
كان يتم تقديم تلك العروض بواسطة ما يعرف باسم الـ"كاستراتو Castrato"، وهو مغنٍ ذكر يتم إخصاؤه قبل الوصول لمرحلة البلوغ حتى يحتفظ بصوته الطفولي الرخيم. والفنانون الكاستراتو هم من بين أهم أسباب نجاح فنون الأوبرا فيما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر بسبب أصواتهم الرقيقة الناعمة الرنانة التي تصدر من حناجر ذكورية.

ومن أجل إسعاد جمهور الأوبرا من النخبة والنبلاء، لجأ فنانون كبار ومشاهير مثل "باخ Bach " و"موتزارت Mozart " و"هاندل Hendel" لكتابة ألحان خاصة بالكاستراتو. ويقول الفنان الكوري جونغ إنه لم يتعرف على المواهب الحقيقية للفنانين الكاستراتو إلا بعد أن درس عنهم.

وفي القرن التاسع عشر بدأت ظاهرة الكاستراتو في الاختفاء بعد اتهام ممارسيها بأنها ظاهرة غير إنسانية وغير أخلاقية. ووقتها بدأت الأدوار التي يؤديها الكاستراتو في الاختفاء، وحل مؤدو السوبرانو محلهم في أداء تلك الأدوار. وفي سبعينات القرن الماضي بدأت ظاهرة جديدة في الانتشار في أوروبا، تتمثل في إعادة اكتشاف الأنماط الفنية القديمة، مما سلط الضوء على فناني الكاونترتينور من جديد.

والسبب في قلة عدد فناني الكاونترتينور هو عدم حماس ورغبة الأغلبية العظمى من الرجال في أداء مثل تلك الأنماط الفنية والغنائية. والفنان الكاستراتو الحقيقي يجب أن يتمتع بصوت طفل مع القدرة على تنويع وتغيير صوته لطبقات كثيرة ومتعددة.

أصبح نمط كاونترتينور بالنسبة للفنان الكوري جونغ سي مان قدرا ومصيرا. ففي عامه الدراسي الأول في جامعة "مانيس Mannes " للموسيقى تمكن من إحراز درجات عالية واجتاز كل الاختبارات الأولية. وقد فعل ذلك دون مران.
يمكن تلخيص العام الأول من الفترة التي قضاها جونغ في أمريكا في كلمتين فقط هما الغرور والكسل. لكنه أصبح بعد ذلك يعمل بجد ومثابرة ويمارس تمريناته باجتهاد.

قضى جونغ الثلاثة أعوام التالية في مثابرة واجتهاد ودراسة وتمرين. ولم يضع ذلك المجهود سدى، بل أثمر نتائج إيجابية، فبعد فوزه بجائزة "ألسكندر غيراردي" في ألمانيا في عام 2009، فاز بجائزة "فرانسيسكو فيناس" في العالم التالي في إسبانيا، ثم فاز بجائزة مؤشر غناء الأوبرا في أكتوبر من العام الماضي، وأخيرا جائزة مؤسسة "جيردا ليسنر Gerda Lissner " الدولية في شهر أبريل الماضي. والآن أصبح معروفا كأحد أحد أهم الكاوتيرتينور في العالم.

وفي العام الماضي لعب جونغ الدور الرئيسي في أوبرا "فلايت Flight" حيث تمكن من اقتحام عالم الأوبرا في الولايات المتحدة. ووقتها كتبت عنه مجلة "الموسيقى الكلاسيكية" الأمريكية المتخصصة، حيث قالت إن "جونغ" قدم أداءً ممتازا وجسدّ بشكل مدهش شخصية بطل الأوبرا الرجل المأزوم المظلوم المهزوم. وبعد كل تلك النجاحات المتوالية، انضم جونغ لوكالة دولية مرموقة للفنانين الكلاسيكيين، لكنه ما زال يستعد للمزيد من النجاحات في محال الأوبرا.
لعب جونغ الدور الرئيسي في أوبرا "المسيح" للموسيقار "هاندل" في قاعة "كارنيغي" في نيويورك في العام الماضي. ورغم ما نال من شهرة وإشادة، ورغم ما تملكه من غرور في بداية حياته، إلا أن هذا الفنان الشاب صار متواضعا وأكثر إخلاصا لفنه.

يتأهب هذا الفنان اللامع بعد اكتمال سلسلة العروض التي يقدمها في كوريا، للإسهام في نشر ذلك النمط الفني في كوريا، وهو على ثقة بأن جهوده تلك ستؤتي ثمارها.
انتهى