خلال فترة الحرب الباردة، سعت الولايات المتحدة والصين إلى تحسين العلاقات الدبلوماسية من خلال ما عُرف بـ"دبلوماسية تنس الطاولة". وكذلك في العلاقات بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، شكّلت التبادلات الرياضية جسرا بين الجانبين. وتشير التطورات الأخيرة إلى أن الكوريتين قد تنخرطان في تبادلات رياضية. فهل يمكنهما مرة أخرى تخفيف التوتر السياسي والعسكري من خلال الرياضة، تماما كما مهدت دورة بيونغ تشانغ الأولمبية في عام 2018، الطريق للحوار بين الجانبين؟
في أولمبياد باريس في العام الماضي، ترك اللاعب "كيم او جين"، عضو فريق الرماية الكوري الجنوبي للرجال، بصمته في تاريخ الرماية بحصوله على ميداليته الذهبية الخامسة في 3 دورات أولمبية مختلفة. كما حقق فريق الرماية الكوري الجنوبي للسيدات رقما قياسيا غير مسبوق بفوزه بالميدالية الذهبية الأولمبية العاشرة على التوالي في منافسات الفرق. والآن، تظهر فرصة لتأكيد هيمنة كوريا الجنوبية في رياضة الرماية، حيث تقام بطولة العالم للرماية لعام 2025 في مدينة "كوانغ جو" في جنوب غرب كوريا في سبتمبر القادم. وسوف يشارك أفضل الرماة من جميع أنحاء العالم، وربما من كوريا الشمالية أيضا، في تلك البطولة التي ستقام في كوريا لأول مرة منذ 16 عاما.
"صونغ مون جونغ" الباحث في المعهد الكوري للعلوم الرياضية:
حصلت اللجنة المنظمة لبطولة العالم للرماية لعام 2025 في "كوانغ جو" على موافقة وزارة التوحيد في 27 يونيو للاتصال بكوريا الشمالية. ونتيجة لذلك، يمكن للجنة المنظمة ومدينة "كوانغ جو" الاتصال مباشرة بكوريا الشمالية لدعوتها للمشاركة في الحدث الذي سيقام في الفترة من 5 إلى 12 سبتمبر. وبعد الحصول على الموافقة على الاتصال، أعربت اللجنة والمدينة عن نيتهما دعوة كوريا الشمالية للمشاركة في البطولة، ونقلتا هذه الرغبة إلى الاتحاد الدولي للرماية. وبصفتها عضوا في الاتحاد الدولي للرماية، فإن كوريا الشمالية مؤهلة للمشاركة في المسابقات الدولية. وعلى عكس الألعاب الأولمبية، لا تتطلب بطولة العالم تأهيلات إقليمية، مما يتيح للرياضيين من الدول الأعضاء في اللجنة الأولمبية الدولية التنافس في المسابقات الفردية والجماعية. وعلى الرغم من أن مهارات كوريا الشمالية في الرماية لم تصل بعد إلى المستوى العالمي، إلا أنها تعتبر قادرة على التنافس على الميداليات على المستوى الآسيوي.
شعار بطولة "كوانغ جو" للرماية هو "صدى السلام"، وهو يرمز لتاريخ مدينة "كوانغ جو". وتماشيا مع هذا الشعار، وجهت اللجنة المنظمة دعوة رسمية إلى فريق الرماية الكوري الشمالي، وهو ما يعني أن كوريا الجنوبية ترسل "إشارة واضحة للحوار. لكن السؤال الآن هو: هل ستقبل كوريا الشمالية بتلك الدعوة؟
"صونغ مون جونغ":
بصفتي شخصا مهتما بالرياضة، آمل بصدق أن تشارك كوريا الشمالية. ونظرا للعلاقات المتوترة حاليا بين الكوريتين، يبدو أنه من الصعب جدا أن تدخل الكوريتان قريبا في أي حوار هادف من خلال الرياضة. ومع ذلك، يتوقع البعض أن تشارك كوريا الشمالية في المسابقات الدولية لتعزيز صورتها كدولة عادية. وقد تم تعليق عضوية كوريا الشمالية في اللجنة الأولمبية الدولية في عام 2021 بعد أن قررت عدم إرسال فريق إلى أولمبياد طوكيو 2020 بسبب المخاوف من فيروس كورونا. وأدى ذلك التعليق إلى إلحاق ضرر كبير بسمعة كوريا الشمالية. وإذا لم تشارك في بطولة الرماية القادمة دون سبب محدد، فأعتقد أن ذلك قد يؤثر سلبا على الأحداث الرياضية الدولية التي قد تستضيفها كوريا الشمالية في المستقبل.
سيتنافس حوالي 900 رياضي من 90 دولة في بطولة "كوانغ جو" العالمية للرماية التي تستمر 8 أيام، والتي تعتبر واحدة من أرقى مسابقات الرماية على مستوى العالم. وقد يشارك الرماة الكوريون الشماليون أيضا في هذا الحدث، بالنظر إلى أن كوريا الشمالية تواصل سعيها لتحقيق هدفها في أن تصبح دولة رياضية بارزة تحت قيادة "كيم جونغ أون".
منذ بداية قيادته، أبدى "كيم جونغ أون" اهتماما كبيرا بالرياضة. في خطاب العام الجديد لعام 2015، أعلن الزعيم الكوري الشمالي عن رؤيته لبناء قوة رياضية، وبذل جهودا لتنمية قدرات الرياضيين على المستوى العالمي ووسع العلاقات الدولية من خلال إنشاء لجنة التوجيه الرياضي الحكومية، التي تتألف من مسؤولين كبار، كما تم تكريم ومكافأة الرياضيين الذين تميزوا في المسابقات الدولية. ونتيجة لذلك، شارك المزيد من الرياضيين الكوريين الشماليين في الأحداث الرياضية الدولية وحققوا نتائج جيدة. وفي عام 2024، فازت كوريا الشمالية بكأس العالم لكرة القدم للسيدات تحت سن 20 عاما، وحصلت لاعبة تنس الطاولة الكورية الشمالية "كيم كوم يونغ" على لقب فردي السيدات في بطولة آسيا لتنس الطاولة. وتعد استضافة الأحداث الرياضية الدولية مجالا آخر تستثمر فيه كوريا الشمالية موارد كبيرة. ولهذا يتوقع الكثيرون مشاركتها في بطولة "كوانغ جو".
"صونغ مون جونغ":
في الماضي، كانت كوريا الشمالية تشارك في المسابقات الدولية التي تقام في كوريا الجنوبية، بهدف التكيف مع حالة العلاقات بين الكوريتين. وعندما كانت العلاقات الثنائية في حالة جيدة في عام 2002، أرسلت كوريا الشمالية فريق تشجيع كبير إلى دورة الألعاب الآسيوية في "بوسان" لجذب الانتباه. وفي عام 2014، شاركت كوريا الشمالية في دورة الألعاب الآسيوية في "إنتشون"، بل وأرسلت وفدا من 3 مسؤولين رفيعي المستوى إلى حفل الختام، في محاولة لإجراء حوار بين الكوريتين. وفي عام 2017، صعدت كوريا الشمالية من تهديداتها النووية بدرجة كبيرة. ولكن خلال خطابه بمناسبة العام الجديد في 1 يناير 2018، أعلن "كيم جونغ أون" عن مشاركة كوريا الشمالية في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في "بيونغ تشانغ" في كوريا الجنوبية، مما أدى إلى تغيير الأجواء الدبلوماسية. كما تعاونت كوريا الشمالية في تشكيل فريق كوري موحد للألعاب الشتوية. تُظهر هذه الحالات أمثلة توضح الاستخدام الاستراتيجي لكوريا الشمالية للدبلوماسية الرياضية عندما تجد فيها فرصة لتحسين العلاقات مع جارتها الجنوبية.
استنادا إلى ما حدث في الماضي، هناك توقعات بأن تشارك كوريا الشمالية في بطولة "كوانغ جو"، خاصة وأن حكومة "لي جيه ميونغ" في كوريا الجنوبية تتبنى نهجا تصالحيا منذ توليها السلطة، مما ساهم في تخفيف التوتر بين الكوريتين. وفي الواقع، استخدمت الكوريتان في الماضي التبادلات الرياضية عدة مرات من أجل استعادة قنوات الحوار وتعزيز أجواء المصالحة.
دخلت المحادثات بين الكوريتين بشأن التبادلات الرياضية مرحلة جديدة مع بدء انهيار نظام الحرب الباردة في أواخر ثمانينيات القرن العشرين. وخلال دورة الألعاب الآسيوية في بكين في عام 1990، هتف مشجعو كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية معا لأول مرة. وفي أكتوبر من نفس العام، اتخذتا خطوة مهمة أخرى باستضافة مباريات كرة قدم موحدة بين الكوريتين بالتناوب بين سيول وبيونغ يانغ. وفي عام 1991، نجحتا في تشكيل فريق موحد للمشاركة في بطولة العالم لتنس الطاولة في اليابان. وفي تلك البطولة، ولأول مرة منذ تقسيم شبه الجزيرة الكورية في عام 1945، حقق الفريق الكوري الموحد لتنس الطاولة إنجازا رائعا بفوزه على الفريق الصيني وفاز ببطولة الفرق النسائية
وقف الفريق الكوري الموحد على قمة المنصة، مع أغنية "آريرانغ" في الخلفية. وفي أولمبياد سيدني لعام 2000، أثرت الكوريتان في قلوب الناس في جميع أنحاء العالم بدخولهما المشترك التاريخي خلال حفلي الافتتاح والختام.
"صونغ مون جونغ":
عند النظر إلى جذور الإرث الأولمبي، الذي توارثته الأجيال على مدى قرون، من منظور يركز على السلام، مثّلت الدورات الأولمبية تقليديا توقفا مؤقتا للحروب خلال فترة إقامتها. فخلال انعقاد الألعاب الأولمبية، يتم إعلان هدنة مقدسة، مما يجبر جميع الدول، حتى تلك التي في حالة صراع، على إعلان وقف إطلاق النار. ولهذا السبب، كانت الألعاب الأولمبية، باعتبارها حدثا رياضيا شاملا يضم مختلف التخصصات الرياضية، بمثابة منصة مهمة لتعزيز السلام الدولي. وقد امتد هذا المبدأ إلى العلاقات بين الكوريتين أيضا. وقد حدثت اللحظة الافتتاحية لتعاون كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية في الألعاب الأولمبية خلال دورة الألعاب الأولمبية في سيدني في سبتمبر عام 2000. وفي حفل الافتتاح، دخل 180 مشاركا من كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، أي 90 من كل جانب، إلى الاستاد معا، حاملين علم كوريا الموحد. وعلى الرغم من أن المسابقات أقيمت بشكل منفصل للجنوب والشمال، إلا أن دخولهم المشترك غير المسبوق، وهم يلوحون بالعلم الموحد ويهتفون معا، حظي بتصفيق من الناس في جميع أنحاء العالم. وأدت هذه الحركة الرمزية إلى دعوات لاحقة للمشاركة الموحدة في الأحداث المستقبلية. وبعد هذه المناسبة المهمة، أصبحت مسيرة كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية معا في حفل الافتتاح في الأحداث الرياضية المتعددة، مثل الألعاب الأولمبية، أمرا بارزا ومهما. واستمر ذلك خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في "بيونغ تشانغ" ودورة الألعاب الآسيوية في جاكرتا في عام 2018.
بعد أولمبياد سيدني، واصلت الكوريتان الدخول المشترك في الاحتفالات خلال دورة الألعاب الآسيوية في "بوسان" في عام 2002، وأولمبياد "أثينا" في عام 2004، ودورة الألعاب الآسيوية الشتوية في "تشانغ تشون" في عام 2007. وبعد انقطاع طويل، عاد هذا التقليد إلى الحياة في عام 2018، حيث سارت الكوريتان معا تحت علم كوريا الموحد خلال حفل افتتاح أولمبياد "بيونغ تشانغ" الشتوية.
حتى عام 2017، كانت العلاقات بين الكوريتين قد وصلت إلى أقل مستوياتها بسبب التجارب النووية والاستفزازات الصاروخية التي قامت بها كوريا الشمالية. ومع ذلك، وفرت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2018 فرصة حاسمة لاستئناف الحوار. واستنادا إلى السوابق التاريخية، تثير الأحداث الرياضية القادمة مثل بطولة العالم للرماية في سبتمبر، وبطولة آسيا لتنس الطاولة للناشئين في بيونغ يانغ العام القادم، توقعات بأنها فرص محتملة لتخفيف التوتر بين الكوريتين.
"صونغ مون جونغ":
في حياتنا اليومية، غالبا ما تشكل العادات ما سيقع في المستقبل. ويمكن ملاحظة هذا النمط أيضا في العلاقات بين الكوريتين. وتاريخيا، لطالما كانت التبادلات الرياضية في بداية ومركز الانفراج الدبلوماسي بين الكوريتين. وأعتقد أن هذا سيكون الحال هذه المرة أيضا. ومن الأمور التي تثير الاهتمام بوجه خاص: بطولة آسيا لتنس الطاولة للناشئين التي ستُعقد في بيونغ يانغ في يونيو من العام القادم، لأنها ستكون أول حدث رياضي كبير بعد المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي الكوري الشمالي، حيث من المتوقع أن تنتهي كوريا الشمالية من وضع خطتها الوطنية الخمسية الجديدة للتنمية. ومن المرجح أن تعقد كوريا الشمالية ذلك الاجتماع الحزبي المهم في نهاية هذا العام أو أوائل العام القادم. وإذا كانت السياسات الخارجية الجديدة لكوريا الشمالية تميل نحو المصالحة، فمن المعقول أن نتوقع موجة دافئة أخرى في العلاقات بين الكوريتين، بحيث تكون الرياضة جسرا دبلوماسيا.
خلال فترات المصالحة، ساهمت الرياضة في الحفاظ على العلاقات بين الكوريتين، وعندما تصاعد التوتر، كانت الرياضة أيضا قناة للتواصل، حيث خلقت فرصا لإعادة كوريا الشمالية إلى الحوار. والآن نتوقع أن توفر الرياضة باعتبارها محفزا ثابتا للتواصل بين الكوريتين، انفراجة في العلاقات المتعثرة حاليا بينهما.