الأخبار

شبه الجزيرة الكورية من الألف إلى الياء

من داخل كوريا الشمالية

الأسواق في كوريا الشمالية

2019-02-28

© KBS

نواصل هذا الأسبوع الحديث عن تأثير انتشار الأسواق في كوريا الشمالية على الاقتصاد المحلي في الدولة الشيوعية. وقد أدى انتشار الأسواق، أو "جانغ مادانغ 장마당" إلى نشأة ثقافة الخدمات، وأيضا إلى انتشار مصطلحين، هما: "تون جو 돈주" أي "صاحب المال"، و"جانغ مادانغ سيه ديه" أي "جيل جانغ مادانغ". واليوم سنتعرف أكثر على هذه التغييرات. ومعنا أولا الهارب الكوري الشمالي "جونغ سي أو":


الهارب الكوري الشمالي "جونغ سي أو 정시우":

شهدت كوريا الشمالية تفعيل جانغ مادانغ وتقدمها كثيرا، ولهذا فقد أصبحت مجتمعا رأسماليا إلى حد ما، وهو ما جعل المواطنين الكوريين الشماليين منفتحين كثيرا، وتم تنشيط تعبئة البضائع حتى تغير الاقتصاد الكوري الشمالي تغيرا تاما. وفي "جانغ مادانغ" يمكن التمتع بخدمات التوصيل، بحيث إذا اختار المشترون البضائع التي يريدون شراءها، يمكنهم دفع أسعارها للبائيعن ثم إبلاغهم بعناوين بيوتهم أو أرقام هواتفهم المحمولة، ومن ثم يسألهم البائعون عن مواعيد التوصيل ثم يقومون بتوصيلها إليهم من خلال حملها على ظهورهم أو باستخدام الدراجات أو عربات اليد.


بعد انتشار "جانغ مادنغ" في مختلف أرجاء كوريا الشمالية، بلغ عدد المواطنين الذين يستخدمونها مليونا و800 ألف شخص يوميا، ومن ثم ظهرت المنافسة بين التجار، مما أدى إلى تكوين شبكة بيع خاصة لتوصيل البضائع. وبعد أن أصبحت "جانغ مادانغ" مرتبطة ارتباطا وثيقا بحياة المواطنين الكوريين الشماليين حيث تغطي ما يقرب من 90% من احتياجاتهم اليومية، توسعت مجموعة الناس الذين يمتلكون رؤوس أموال ويحرّكون "جانغ مادانغ"، وهم يسمون "تون جو". عن ذلك يتحدث إلينا "جو بونغ هيون" نائب رئيس معهد البحوث الاقتصادية في البنك الصناعي الكوري.


"جو بونغ هيون 조봉현" نائب رئيس معهد البحوث الاقتصادية في البنك الصناعي الكوري: 

"تون جو" عبارة عن طبقة جديدة من الأغنياء في كوريا الشمالية. في ظل الاقتصاد القائم على التخطيط الاشتراكي كان من الصعب على المواطنين العاديين اكتساب ثروة حسب مبدأ المساواة بين الجميع، باستثناء كبار المسؤولين في السلطات الكورية الشمالية. ولكن بعد أن تم تكوين اقتصاد السوق وإنشاء أسواق "جانغ مادانغ"، ظهرت طبقة من أولئك الذين يكتسبون الأموال من خلال الأعمال التجارية الكبيرة أو أعمال العقارات اعتمادا على صلاتهم الوثيقة بالسلطات، ويسمى هؤلاء بالطبقة الجديدة من الأثرياء أو "تون جو"، أي "أصحاب المال". وعادة ينتمي أولئك الذين يمتلكون حوالي مائة ألف دولار إلى هذه الطبقة. حاليا يبلغ نصيب الفرد الواحد من إجمالي الناتج المحلي في كوريا الشمالية حوالي ألف ومائتي دولار. ولهذا فإن مائة ألف دولار تعتبر قيمة كبيرة في الاقتصاد هناك.


ظهرت فئة "تون جو" أي "أصحاب الأموال" لأول مرة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. وفي ذلك الوقت تم وقف توزيع جميع الإمدادات اليومية وإغلاق المتاجر التي تديرها الدولة بسبب تدهور الاقتصاد الكوري الشمالي بشدة، وهو ما دفع المواطنين لإنشاء "جانغ مادانغ" لبيع وشراء احتياجاتهم اليومية.


"جو بونغ هيون 조봉현":

حاليا لا يضخ أصحاب الأموال أموالهم في أسواق جانغ مادانغ فقط، بل وأيضا في السوق اللوجستية وحتى سوق الإنشاءات. تستطيع السلطات الكورية الشمالية الاستثمار في جميع الأعمال الاقتصادية إذا توافرت لديها الأموال، ولهذا يستثمر أصحاب الأموال كثيرا في تطوير العقارات أو مجمعات المتاجر لتحقيق أرباح. وتساعد هذه الطريقة على ازدهار أعمال الإنشاءات في كوريا الشمالية. وهكذا يلعب أصحاب الأموال دورا كبيرا ليس فقط في التجارة بالبضائع بل وأيضا في التمويل من خلال القروض الربوية. ففي كوريا الشمالية لا تعمل البنوك بشكل طبيعي، ولهذا فإن الناس يقترضون المال من أصحاب رؤوس الأموال، أي "تون جو". ومع زيادة عدد أصحاب الأموال باستمرار، زاد نفوذهم أيضا، حتى إنهم يمارسون نفوذهم على السلطات أحيانا.


بعد أن نشأت أسواق جانغ مادانغ لتكون مسؤولة عن توفير احتياجات المواطنين الكوريين الشماليين، صارت تُشكّل مصادر ضخمة للأموال الآن، وهو ما أدى ظهور ما يسمى بـ"جيل الأسواق" أو "جانغ مادانغ سيه ديه"، وهم الذين ولدوا بعد عام 1990. عن ذلك يتحدث الهارب الكوري الشمالي "جونغ سي أو" الذي ولد في بيونغ يانغ في عام 1991.


جونغ سي أو 정시우":

أنا من "جيل جانغ مادانغ" وأشعر بأن المال يصنع الإنسان سواء في المجتمع الاشتراكي أو الرأسمالي ولا يصنع الإنسان المال. ولهذا فإن كثيرا من الشباب الكوريين الشماليين بدؤوا يشعرون بذلك. في المجتمع الاشتراكي أيضا يمكن للناس التمتع بالاحترام بشرط اكتساب أموال كثيرة. وحتى أولاد كبار المسؤولين الحكوميين لا يتمتعون بالاحترام في المجتمع إذا لم يكن لديهم أموال. وبالنسبة لهم لا يدخلون في حقل التجارة عادة لأنهم سيخلفون آباءهم عندما يكبرون. ولكن يعمل في التجارة الكثير من أبناء الطبقة الوسطى لأنهم يريدون حياة أفضل من غيرهم. ولهذا فإنهم يديرون مطاعم أو يتاجرون بالفحم. ويعمل في هذا المجال عدد كبير من الناس فئة العشرينيات من العمر.


قضى جيل جانغ مادانغ في كوريا الشمالية فترة طفولتهم في منتصف التسعينيات من القرن الماضي وهم يشعرون بآثار التدهور الاقتصادي، حيث ظلوا يعانون من الصعوبات الاقتصادية والغذائية، وبالتالي صاروا جيلا أقل وفاء للنظام الحاكم. ومن اتجهوا إلى أسواق جانغ مادانغ بدلا من المدارس لممارسة التجارة من أجل البقاء على قيد الحياة، وهناك جربوا اقتصاد السوق بشكل طبيعي وزاد اهتمامهم بالأنشطة الاقتصادية بدلا من الأيديولوجيا.


جونغ سي أو 정시우":

 بالنسبة لأولئك الذين يقدم آباؤهم بعض المال إليهم، يستطيعون بدء مشروعاتهم الخاصة بسهولة. ولكن بالنسبة لأولئك الذين ليس لديهم أموال، يبدؤون بالاشتغال في مختلف أنواع الأعمال المؤقتة، بما فيها غسيل السيارات ونقل البضائع. والأجور الناتجة عن غسيل السيارات مرتفعة في كوريا الشمالية. ولهذا فإنهم يغسلون السيارات من الساعة السابعة صباحا وحتى التاسعة مساء دون استراحة حتى ولو دقيقة واحدة، حيث يأكلون طعامهم بعد الانتهاء من العمل بسبب الكثير من طلبات غسيل السيارات. وفي أحسن الأحوال يستطيعون اكتساب خمسين ألف وون، أي ما يعادل خمسة دولارات يوميا من خلال غسيل السيارات. ويعتبر مبلغ خمسة دولارات كبيرا في كوريا الشمالية، حيث إن متوسط الرواتب الشهرية للعمال الكوريين الشماليين يقل عن دولار واحد.


هكذا بدأت كوريا الشمالية تتغير من خلال "جانغ مادانغ" نحو الاقتصاد الموجه إلى السوق.


"جو بونغ هيون 조봉현":

في الماضي كان المواطنون الكوريون يعيشون حياة يومية تتحكم فيها السلطات المركزية ولكن مع ظهر أسواق جانغ مادانغ تغيرت أنماط حياتهم حتى صاروا يقومون بالأنشطة الاقتصادية بأنفسهم في الأسواق. ولهذا أتوقع أن تتغير طريقة الحكم هناك، بدلا من طريقة "من أعلى إلى أسفل" التي تعتمد كليا على قرارات الحزب الحاكم، لتصبح طريقة "من أسفل إلى أعلى". واذا سارت الأمور هكذا باستمرار سيتحسن الاقتصاد الكوري الشمالي حتى يسير في طريق الإصلاح والانفتاح بشكل طبيعي.


الكثير من المحللين متفائلون بأنه إذا تم تخفيف التوتر في شبه الجزيرة الكورية، فسوف تجري عمليات التعاون الاقتصادي بين الكوريتين جنبا إلى جانب مع الإصلاح والانفتاح بسرعة، وذلك بناء على ما حققه انتشار أسواق "جانغ مادانغ" حتى الآن من تغيير في المجتمع الكوري الشمالي.

أحدث الأخبار